أيهما أفضل: هل يقوم الرئيس عبدالفتاح السيسى بإلقاء خطاباته من نص مكتوب أم يتحدث تلقائيا عفويا من نص موجود فى ذهنه؟ كثير من الكتاب وأصحاب الرأى فى البلاد أشاروا إلى وجهة النظر الأولى بالحديث والكتابة، ووجهة النظر هنا أن الخطاب الرئاسى هو جزء من التاريخ، هو بالضرورة وثيقة تحفظ تجربة البلاد فى لحظة بعينها، ودقتها مهمة للدول الأخرى التى ربما يغيب عن مترجميها ذلك التعقيد الموجود فى النص العفوى. والأرجح أن هؤلاء بحكم المهنة يريدون نصا مكتوبا حتى يمكن تحليله، وتفكيكه، ومقارنته بنصوص سابقة، والاقتطاف منه كمصدر موثق. آخرون كانت لهم وجهة نظر أخرى، فالرئيس مثله مثل كل السياسيين، لا يتحدث كمحاضر، وإنما هو فى حالة اتصال مع الناس والجماهير، والسياسى الناجح هو من يعرف كيف يعزف على أوتار الناس ومشاعرهم ومفاتيح عقولهم، هو باختصار من يستطيع أن يصل إلى الناس بكلمات قليلة فيدفعهم إلى حماس أو ينزل بهم إلى هدوء.
وهكذا جلست مثل كثيرين أستمع إلى خطاب الرئيس السيسى فى افتتاح قناة السويس الجديدة، وربما لم أكن محظوظا أن أكون حاضرا فى حدث تاريخى لا يتكرر كثيرا لأن الدعوة لم تصل رغم ما قيل لى تليفونيا إنها فى الطريق، وعلى أى الأحوال لم يكن هناك فارق بينى وبين الملك السابق أحمد فؤاد الثانى!. مشاهدة الخطاب تليفزيونياً ربما كانت فيها ميزة إضافية، وهى أن موضوع الجلسة هو الخطاب، ولا غيره شىء يشتت الانتباه، حول ما يحدث فى مجرى القناة، أو بين الجمهور الجالس على المنصة. الرئيس السييسى حاول التخلص من مأزق النص المكتوب والنص الشفوى العفوى بمواجهة الأمر فى صراحة مباشرة، وهو أن المفكرين والكتاب والعلماء يريدون نصا مكتوبا، ولكنه يريد الحديث إلى جماهير المصريين. التفرقة كان واضحا أنها مطلوبة، وبشكل ما هناك إلحاح عليها، والقرار هو أن يبدأ الخطاب من القلب إلى القلب، مباشرة عفويا إلى الشعب، وربما الضيوف أيضا الذى يريدهم أن يستمعوا إلى نبرات صوته عند الحديث إلى شعبه حتى لا ينتقل المعنى فقط وإنما الإحساس به.
هذه الحقيقة لها أصولها فى علم «البيولوجيا السياسية أو Bio- politics» الذى درسته وطبقته محاضرا عن الصراع العربى- الإسرائيلى، حيث اعتدت عندما نصل إلى حرب عام ١٩٥٦ أن أورد خطاب عبدالناصر فى تأميم القناة. لم يكن الطلاب يعلمون شيئا عن اللغة العربية، ولكن ترجمة النص العربى كانت متاحة، ومع ذلك فإن قراءته لم تكن تنقل كل المعنى، الصوت ومدى حدته، القرار ومدى حزمه، صفاء العين ووصولها إلى نهاية الطريق، رد فعل الجماهير، وهكذا أمور واردة فى هذا العلم نسميها كلها «بيولوجيا تسريب المعنى» ولها تطبيقات كثيرة فى المفاوضات وإدارة الأزمات. وهكذا قرر الرئيس السيسى، منذ البداية، أنه سوف يخرج عن النص، ولكنه ربما، للتاريخ ولأصحاب المعرفة، قرأ النص الآخر المكتوب والذى كان رفيع المستوى فى اللغة والمعنى، وربما كان أول خطاب لرئيس مصرى يجرى فيه اقتطاف من مفكر معروف وهو الدكتور جمال حمدان، فلم يفعلها أى من سابقيه من رؤساء الجمهورية.
النص المكتوب والخطاب العفوى لم ينفصلا عن بعضهما البعض، وبقدر ما كان الأول مباشرا، فإن الثانى أضاف الكثير من المشاعر. كان هناك «الفخر» بمشروع قناة السويس الجديدة والإنجاز فيه، ولكن الكلمات لا تقوم بما قامت به لمعات العيون، وانبساط الوجه فرحة، والابتسامة الواقعة بين الحزم والنشوة، وفى تكرار أن الإنجاز ليس نهاية الأمر، ولكنها «خطوة تتلوها ألف خطوة». الغضب والتصميم فى مواجهة الإرهاب يظهر فى تكرار «يحرق الأرض»، والتكرار فى المكتوب ممجوج ولكن فى التلقائية يكون أحيانا من البلاغة. وينبسط الوجه، وربما تنفك السمرة فيه قليلا، ويختلط بعض من الشجن والتصميم، عندما يجرى الكلام عن الدين الإسلامى وما يجب فيه من تجديد وثورة نتحمل نحن العرب، خاصة المصريين، تبعاتها. هى مسؤولية تجاه العالم، ولذلك فإن قناة السويس، والحرب ضد الإرهاب، وتجديد الخطاب الدينى، كل ذلك ليس فقط من أجلنا، ولكن من أجل «الإنسانية». استخدم السيسى فى الجزء العفوى من خطابه كلمة الإنسانية ثمانى مرات، هنا تحديدا وفى كل مرة يجرى الذكر، يحدث نوع من الوصل بطرف العين أو بحركة الإصبع بين الرئيس والضيوف الذين جاءوا من أركان المعمورة الأربعة. وبالتأكيد هناك ما هو أكثر، ولكن المساحة وصلت إلى نهايتها!!