بلد مازال فيه عمر خيرت هو بلد من الممكن أن تطمئن عليه وإليه!! هكذا همست لنفسى، أمس، وأنا أستمع إلى شوبان مصر، هذا الساحر الذى تطبطب أنامله على وجداننا، تهدهد شغاف قلوبنا، وتمسح ملح العبرات الذى جفّ من ركام الأحزان من على مآقينا، المهم أن يبقى عمر خيرت، والأهم أن يبقى متذوقو عمر خيرت على العهد والوعد، فالوطن الذى يتذوق فيه المواطن موسيقى عمر خيرت، ويشترى تذكرته من السوق السوداء، ويحجز حفلاته قبلها بعام هو وطن لا يمكن أن يموت، من الممكن أن يمرض وترتفع حرارته ويهلوس أثناء الحمى، ثم يستيقظ عندما تستيقظ مناعته وتُستفَز إمكانياته المخبوءة المهدرة، فالإرهاب يموت يوم أن يسكن التمثال واللوحة والكونشيرتو والباليه وجدان المصرى، فمَن يتذوق تلك الإبداعات لا يمكن أن يُشهر سكيناً أو يبقر بطناً أو يفجر كميناً، لأنه ببساطة سيحب الحياة، عزَف عمر خيرت فى حفل افتتاح القناة كما لم يعزف من قبل، تألق حتى استلب وجداننا إلى تخوم وحدود الغامض والساحر والسرمدى، كان يعرف أنه يعزف لمصر وللعالم كله من الإسماعيلية، عمر خيرت لا يجيد الكلام والثرثرة، اللغة الوحيدة التى يجيدها هى لغة الفن والموسيقى، هو يعرف أنه حفيد الفراعنة وسليل عائلة خيرت العبقرية، ويعرف أن عليه واجب الحفاظ على هذين اللقبين، كان يعزف وأمامه نقوش العزف على الهارب الفرعونى، ويتجسد أمامه فى نفس اللحظة خيال «أبوبكر خيرت»، الأب الروحى للكونسرفتوار، مهندس الموسيقى المصرى الرائع، استعدت وأنا أستمع إلى مقطوعات خيرت ما كنت قد كتبته أثناء حفل عمر خيرت فى زمن الإخوان، نشرته مغلفاً بالدموع التى خنقتنى وأنا أتخيل مستقبل هذا البلد عندما ينتصر عمر على عمر، الأول عمر عبدالرحمن الذى كانت مظاهرات الإفراج عنه يقودها الإخوان والسلفيون خارج القاعة، والثانى عمر خيرت الذى نحتمى بدفء موسيقاه داخل القاعة من صقيع التتار الجدد، كتبت يومها:
«وأنا فى طريقى لحضور حفل عمر خيرت، بالأمس، كنت أستمع إلى خطاب الرئيس مرسى وهو يطالب بالإفراج عن عمر عبدالرحمن، تذكرت فتاوى الشيخ الجليل عن جواز سرقة محال تجار الذهب الأقباط، واغتيال السادات وفرج فودة، وذبح نجيب محفوظ الذى كان يرى أنه لو كان قد عوقب على رواية (أولاد حارتنا) لكان قد تعلم سلمان رشدى من الدرس ولم يقدم على كتابة روايته!! استمع إلى رأى الشيخ عمر عبدالرحمن فى الأقباط على هذا اللينك http://www. youtube. com/watch?v=xZBKLJw4SCM، من الممكن أن تكون الحالة الصحية المتدهورة لسجين بعينه هى مبرر طلبنا العفو عنه، ويتساوى فى ذلك الجميع، لكن أن تكون دعوة لنسيان جرائم إرهابية روَّعت مصر والمصريين وقتلت مبدعيها وبسطاءها وسياحتها فى شوارع أسماء فهمى والعجوزة وأسيوط والأقصر تحت راية مقدسة استُخدمت لخداع البسطاء، فهذا هو المرفوض الذى يجب أن نتصدى لمنعه، مصر لا ينقصها استيراد إرهاب أو الإفراج عن إرهابيين، مصر ينقصها استيراد علماء ومبدعين وصناع حضارة ومحبى حياة لا تجار موت، مصر على الحافة وعليها الاختيار بين العمرين. كانت حفلة عمر خيرت المزدحمة خير تصويت على أن وجدان مصر مازال فيه الرمق، مازال يعافر، شباب وكهول، رجال ونساء، يتشبثون بأهداب الفن السحرية، تطبطب على أرواحهم أنامل عمر خيرت السحرية، دموع الجمهور وهو يعزف (فيها حاجة حلوة) تصرخ بأن مصر بالفعل فيها حاجات كتير حلوة يجب البكاء عليها لو ضاعت، تفاعلهم مع (يبقى أنت أكيد المصرى) تشبث بالجذور الوسطية الأصيلة للمصرى المتجرد من عباءة بدو الوهابية، أخذنا خيرت إلى جنة الفن وفردوس الإبداع، أيقن الجميع أن أعداء الفن هم أعداء الحياة، عرفنا أن مَن لا يهتز لنغمة أو يطرب لإيقاع فهو غير جدير ببناء حياة ومستقبل، مَن لا يبكى عندما يشاهد فيلم (نهر الحب) أو (حبيبى دائماً)، ولا يضحك عندما يشاهد الريحانى أو عادل إمام ويتذكر فقط أن الأول مسيحى والثانى يستحق السجن!
فهو غير مؤهل لخوض مغامرة تغيير مجتمع وبناء وطن، مَن يرَ فى راقصة الباليه مجرد ملابس قصيرة تثير غريزته الجنسية هو إنسان مريض نفسياً مكانه مستشفى الخانكة، ولا ينبغى أن تكون له المرجعية! ومَن يستمع إلى مزامير الشيطان فى موسيقى الساحر عمر خيرت فهو أصم غليظ الحس متبلد الوجدان. استمعوا إلى عمر خيرت فى هذه الأيام الضنك، احتفوا واحتموا بموسيقاه، ارقصوا واطربوا وفكوا صواميل الكبت والقهر والتزمت، وذَوِّبوا نشا الصمت والتواطؤ والخوف على إيقاع موسيقى هذا العبقرى الجميل».