كان، وما زال حفر قناة السويس «الأولى» مصدر وجع وألم للضمير المصرى، حيث كان الامتياز الذى منحه الوالى محمد سعيد لفرديناند ديليسبس عقد إذعان وصل إلى حدود الإذلال بالمعنى المباشر، حيث ألزم الحكومة المصرية بالتزامات غاية فى الإحجاف، تجاه ديليسبس، ولما حاول محمد سعيد التملص من بعض هذه الشروط تدخلت فرنسا بكل قوتها ونفوذها لمساندة ديليسبس.
وبعد افتتاح القناة وتشغيلها سنة 1869، صارت القناة مصدرًا لزيادة التكالب الاستعمارى على مصر، وجعل بريطانيا أكثر تصميمًا على احتلالها، وهو ما قامت به سنة 1882، وصارت شركة قناة السويس دولة فوق الدولة داخل مصر، ولذا كان، وما زال قرار تأميم القناة فى 1956 مصدر فخر واعتزاز لمعظم المصريين والعرب، بل كل الأحرار فى العالم.
ومن المهم القول إن قرار التأميم كان يراود المصريين منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكن كان اسمه «تمصير القناة»، طلعت حرب له دراسة بهذا المعنى سنة 1898، ولما أرادت بريطانيا، مطلع القرن العشرين، مد امتياز القناة أربعين سنة، هب المصريون ضدها.
الأمر يختلف تمامًا فى حفر قناة السويس (الجديدة)، هى أول مشروع قومى، وطنى، كبير يحققه المصريون منذ انتهاء بناء السد العالى فى يناير 1971، وانتصار أكتوبر 1973، وتتخذ المشاريع الكبرى (الوطنية) قيمتها، ليس من ضخامة تكلفتها وما أنفق عليها، وإلا اعتبرنا بناء كوبرى 6 أكتوبر فى المسافة من كورنيش النيل وحتى العباسية أهم من بناء السد العالى، وتصورنا أن إنشاء الخط الأول لمترو الإنفاق فى المسافة بين رمسيس وحتى التحرير أجدى من حفر قناة السويس أو القناطر الخيرية.
والمشاريع الكبرى تكون عابرة للأجيال، ويستمر دورها وعطاؤها، بل يتعاظم هذا الدور، وتزداد قيمته جيًلا بعد جيل، بهذا المعنى نحن ننعم بفوائد القناطر الخيرية التى بنيت فى عصر محمد على، وخزان أسوان الذى أنجز فى عصر عباس حلمى والجامعة المصرية والسد العالى.
وكل مشروع من هذه المشاريع وقف خلفه أشخاص ورواد كبار، وربما جماعات بعينها، وكل مشروع أقيم فى عهد حاكم بعينه، وفى ظل نظام وظرف سياسى خاص به، لكنها جميعًا نفذت بجهد المصريين وعرقهم وأحيانًا كثيرة بدمائهم، قناة السويس جمعت بين الأمرين، اختلط فيها العرق والدم، وربما كانت نسبة الدم فيها أكبر، خاصة فى السنوات العشر التى جرى حفرها فيها، بين عامى 1859 و1869، ولعل الإصرار على توسعة القناة وتعميقها ثم الإصرار الآن على ازدواج القناة- هو فى جانب منه وفاء لحق الدم وأرواح المواطنين، التى راحت أثناء العمل.
وتقاس المشاريع الكبرى بعائدها الاقتصادى والتنموى وعائدها الوطنى كذلك، وبهذا المعنى من حقنا أن نفخر وأن نسعد بإنجاز قناة السويس الجديدة.
ومن أسف أن فكرة المشروع القومى والوطنى تعرضت للتسخيف طوال العقدين الماضيين، وراح البعض يشكك فى المشاريع السابقة، قناة السويس تم تجميدها على ما كانت عليه منذ افتتاحها سنة 1975، وجرت محاولة لتزييف الواقع، إذ اعتبر البعض أن إقامة النفق الذى يربط شارع الطيران بمدينة نصر مع شارع صلاح سالم مشروعًا قوميًا، كان المقصود، ربما بدون وعى، تجميد مصر وإخفاقها، وكانت ثورة يناير فى جانب كبير منها رفضا قوميا لتلك الحالة وذلك النمط من التفكير.
فى ثورة 25 يناير كان النداء الأكثر انتشارًا فى الشارع «ارفع راسك فوق.. إنت مصرى»، ولم يكن ذلك النداء بعيدًا عن هتاف ثورة عرابى «مصر للمصريين» ونداء ثورة 19 «أنا المصرى» وشعار ثورة 52 «ارفع رأسك عاليًا، فقد مضى عهد الاستعباد، وكانت ثورة 30 يونيو دفاعًا عن هذا المعنى» ارفع راسك فوق انت مصرى، كانت 30 يونيو احتجاجا ورفضا قوميا وحادا لمن أراد تفتيت مصرية مصر والمصريين، ومشروع قناة السويس الجديدة هو التطبيق العملى الناصع لشعار ارفع راسك فوق انت مصرى «من حقنا أن نفخر بالإنجاز الجديد وأن نسعد به، وأن ندندن مع أنفسنا وأن نهتف جميعًا» ارفع راسك فوق.. انت مصرى وعظيمة يا مصر.