أمة ضحكت الأمم من ثورتها، انظر إلى برلمانها. فليس إلا «البرلمان» مؤشراً حقيقياً لمدى ديمقراطية النظام، لا نقول الحاكم، بل النظام السياسى كله؛ إذ لا جدال فى احتواء الأداء البرلمانى كافة مبادئ الحكم الرشيد، من سيادة القانون والمشاركة والشفافية والمساءلة... إلى آخره، متى كان جاداً فى تحقيق مفهومه، وإدراك أهدافه التى نشأ يسعى إليها باعتباره سمة ديمقراطية بالأساس، ومن هنا كان «النظام البرلمانى» الأكثر تعبيراً، بين أشكال الحكم، عن التعاون والتوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وعن مسؤولية الحكومة أمام البرلمان. لولا أن للديكتاتورية عناوين مغايرة متى تناولها خطاب مجتمعى عاق لثورته!.
والواقع أن موضع مفهوم «البرلمان» فى الخطاب المجتمعى بالغ الدلالة على شدة معاناة المخاض الثورى فى انتظار «برلمان ثورى» يلبى الطموحات الشعبية المشروعة صوب حياة كريمة حرة، حتى بات الدعاء محله «برلمان فحسب». فأنى يُستجاب لنا، وأحزابنا متجر كبير، وحكومتنا «تنفيذية» لا أكثر، ورئيسنا للاقتصاد «أميل». ومن ثَمّ؛ ففى المشهد الوطنى لا أثر حقيقياً للمفهوم الشامل للتنمية بمضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فعلى سبيل مغافلة الرأى العام، وسحباً للوطن من مساره الثورى، لحق بالبرلمان، كمكون دستورى، وأداة ديمقراطية معاصرة، رؤى راكدة ما كان لصلاحيتها أن تمتد إلى ما بعد الثورة المصرية؛ فإذا بها باقية، تدفع بالتجربة المصرية إلى آفاق بعيدة من الدهشة؛ إذ يسقط «البرلمان» وقد تفرّق دمه بين كافة أبناء الثورة.
فقد طالت «البرلمان» دعاوى شتى، تُجيز وتُبرر، وتُصر أحياناً على خيار «التأجيل» فى مواجهة الاستحقاق الثالث والأخير لخارطة المستقبل والمتعلق بالانتخابات البرلمانية، وقيل فى ذلك ما يندى له جبين الثورة، ما بين تكلفة مادية عالية لا تتحملها الدولة فى الوقت الراهن!، وخشية بلهاء من إعاقة البرلمان لخطط الرئيس السيسي!، ولم تتخلف الرؤى والحيل والصيغ القانونية عن المساهمة فى الأمر، بينما عاشت الأحزاب السياسية أزهى عصورها، صخباً وبيعاً وشراءً، إذ أنتجت للتجربة المصرية تطوراً نال من جمود الموروث السياسى عند حد شراء الناخب، وصولاً إلى شراء المرشح!.
وفى عنوان مُغاير للشمولية السياسية، وقد باتت أثيرة لا نطيق فراقها، صار سلاح «التوافق» يواجه كل عميل خائن يسعى بين الناس داعياً إلى التعددية السياسية، ولو بحكم الدستور!. بيد أن «العَوْدُ أَحْمَدُ»؛ وبخصوصية المجتمع، ودقة الظرف التاريخى، نلوذ فى مواجهة كل تطبيق جاد لأسس العملية الديمقراطية؛ فعلى غير هدى من علم أو حنكة سياسية، استقبلت الأحزاب دعوة الرئيس السيسى إلى وحدة الصف الوطنى، وهى التى يبدو ملعبها بلا كرة، فراحت تتسابق نحو تشكيل «كيانات هلامية» يتباهون كونها «تجمع مختلف التوجهات السياسية»!؛ والحال كذلك لا يشير إلا إلى غياب توجهات سياسية حقيقية.
وعلى خلفية الحزب الوطنى، كتجربة ناجحة على مدى عقود فى تملق القيادة والاسترزاق من فيضها، راحت الأحزاب السياسية تشيع فى المجتمع خطاباً سياسياً تقلب من خلاله «الجاكت السياسى»، فرئيس أتى وحزبه يمتلك مفاصل الدولة، فعاش بلا شرعية من إنجازات حقيقية على مدى ثلاثة عقود حتى أسقطته ثورة يناير المجيدة، لا فرق كبيراً إذن إن جاءت أحزاب لا وجود لها لتعيش فى ظل رئيس يرتكز على إرادة شعبية؛ ليبقى الأمر رهن موافقة الرئيس على اتخاذهم «ظهيراً برلمانياً»!. والحال هنا أن خجلاً لا يعترى البعض، وحسماً باتراً لا تلجأ إليه القيادة السياسية، وأملاً ثورياً يتراجع، إذ نستهدف البرلمان، ذلك الكيان الديمقراطى الدستورى، للعودة من خلاله إلى ما قبل الثورة!.
وإلى هنا، وعلى هذه الحال، لا صوت يشير إلى برامج انتخابية، مفادها أن أحزاباً لدينا تمتلك رؤى مدروسة، وخططاً موضوعية، من خلالها يمكن تمرير الطموحات الشعبية المتصاعدة، وسُبل تحقيقها، إلى القائمين على إدارة شؤون الدولة. والواقع أن خطاباً مجتمعياً، يعبر بصدق عن ثورة شعبية، ما كان له أن يتيح بقاءً لاختفاء مفهوم «البرنامج الانتخابى» من الثقافة السياسية المصرية؛ فإذا ما تعلق الأمر بانتخابات برلمانية تؤسس لدولة ديمقراطية حديثة، عبرت التجربة المصرية عن مشكلات منهجية تواجهها، لا ينبغى إهمالها.
وفى «البرلمان» كذلك، تبدو المسافة واسعة بين التجربة المصرية، ومثيلاتها على الساحة الدولية، قياساً على أنظمة ديمقراطية؛ ففى سياق المزايدات والمساومات «الثورية»، جاء الخطاب المجتمعى مُشيراً إلى أن غياب البرلمان لا شأن للمجتمع الدولى به!، وقيل إن مؤامرات فى الخارج، وعملاء فى الداخل، يسعون إلى تشويه الثورة المصرية، وفتح أبواب الدولة أمام «التدخلات» الخارجية!، إن هم أشاروا إلى أهمية وجود البرلمان، ولم يلحظ «خبراء الفترة»، تكرار تصريحات الرئيس السيسى، خاصة أمام وسائل الإعلام الأجنبية، حول صدق إرادة الدولة فى إجراء انتخابات برلمانية؛ ذلك أن الرجل لا يمكنه مجاراة ما فى خطابنا المجتمعى من خطايا لا توفر لنظامه مصداقية داخل الأسرة الدولية. وإذا ما صدقت النبوءة وولد البرلمان قبل نهاية العام الحالى، فإن علينا أن نحذر من إهمال الأثر الناتج عن غياب البرلمان مدة عام ونصف العام تقريباً من عمر الفترة الرئاسية الأولى بعد ثورة الثلاثين من يونيو؛ فلم يكن لثورة شعبية أن تعجز عن استكمال مكوناتها الدستورية على هذا النحو الدال على ضعف العزم على مواجهة عمق نفق التحول الديمقراطى، ووعورة الطريق عبر المرحلة الانتقالية.
وللبرلمان كذلك فى خطابنا المجتمعى، وجه آخر عابس؛ فبكثير من الدهشة يستقبل نفس «الخبراء» الأدوار السياسية التى ينهض بها البرلمان فى المجتمعات الديمقراطية، إذ لا حزب حاكم يعمل على تسيير دفة العمل داخل البرلمان باتجاه رغبات الحاكم، ولا استغراق فى قضايا شديدة المحلية، تحول دون مساهمة الدولة فى حركة المنظومة الدولية صوب وحدة قضاياها الأساسية. والوطنية أدعى إلى التماس الدروس متى كنا إلى الديمقراطية نهدف، فرئيس البرلمان الألمانى الذى صرح بإلغاء لقائه بالرئيس السيسى، ينتمى إلى حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، المسيحى الديمقراطى. والمتابع لجلسات العديد من البرلمانات «الديمقراطية» يجد حضوراً حقيقياً وجاداً للقضايا الدولية، فيما يؤكد حقيقة مفادها زوال العديد من الحواجز بين الداخل والخارج فى العلاقات الدولية المعاصرة، فضلاً عن الدلالة على رُقى نوعية النائب البرلمانى، إذ هو ممثل للشعب كله، وليس لأبناء دائرته، وهو على دراية بقضايا وطنه، وحدود ومقتضيات أمنه القومى، وبالقطع تخلو حقيبته من طلبات التوظف والعلاج؛ وعليه يغيب عن البرلمان فى «خطابهم المجتمعى» مفاهيم بالية لعل أهمها «نائب الخدمات».
والحال كذلك، نالت قيم الديمقراطية مقتلها فى الخطاب المجتمعى فى تناوله للبرلمان، مع ما للأخير من أولوية معتبرة فى الأنظمة الديمقراطية. ولا ينبغى أن ينالنا أدنى شك، كون الاستحقاق المتعلق بالبرلمان هو الأكثر قدرة على التعبير عن حقيقة القناعات الديمقراطية فى المجتمع، ومدى ما قطعته المسيرة الثورية على طريق التحول الديمقراطى؛ فليس التاريخ يذكر أن دستوراً رفضه الشعب المصرى، ومواجهة السيسى لحكم الإخوان الفاشى الفاشل لم يدع لمنافسيه فرصة حقيقية، بينما الإخفاق فى إنتاج برلمان ثورى يحيلنا بالقطع إلى ما قبل الثورة؛ هذا إذا ما كانت الثورة قيماً جديدة تحدث تغيرات مجتمعية جذرية، وبالفعل هى كذلك.