لا شك أن أزمة ملعب مباراة الأهلى والزمالك فى الأسبوع الـ٣٧ للدورى الممتاز، التى فرضت نفسها على الدولة، بمؤسساتها الرياضية والسياسية على السواء، كانت كاشفة للاستراتيجة التى يجب أن يتعامل بها النظام السياسى الجديد مع الرياضة، وكرة القدم، والجماهير. وهى الرؤية التى ما زالت غائبة ومضطربة ومعيبة، وهو أمر لا يسأل عنه الرئيس «السيسى»، فالرجل جاء فى ظروف بالغة التعقيد والاشتباك، ومن الخطأ أن نطلب منه رؤية جاهزة ومستقرة لكل شؤون الحياة، خاصة إذا كانت الرياضة تتراجع فى ملف الأولويات أمام ملفات الأمن والاقتصاد والصحة والتعليم وغيرها، لكن من المهم أن نطالبه بإعادة النظر فيمن يصيغون أمامه استراتيجية الرياضة، وبالأخص المنهج التصادمى فى التعامل مع الجماهير، وأعنى المنهج الأمنى، الذى فرض نفسه على الواقع، ووضع الدولة الجديدة فى مواجهة تدفع بها فاتورة نظام سابق قبل الثورة، وتيارات سياسية بعدها، استغلت الجماهير، أو مجموعات قليلة ومحدودة منها، فى تحقيق أغراضها السياسية، فإذا سلمنا بأن النظام الجديد ليست له أغراض ليحققها، ويسعى لصياغة استرتيجية عادلة، فإن عليه أن ينظر للرسالة المهمة التى هبطت إليه من السماء، لظروف لم يسع أحد إليها، ولكنها جاءت لتكشف أمورا مهمة:
أولاً: الحوار والتفاهم واستيعاب طاقة الشباب، وهم القطاع الأكبر من الجماهير، الطريق الأفضل لاحتواء الاحتقان، وإعادة الأمور لنصابها، لأن الصدام والعقاب الجماعى، بسبب خطأ مجموعة محدودة تم استغلالها سياسياً فى مرحلة سابقة، من شأنهما خلق حاجز نفسى بين الجماهير فى عمومها والدولة الناشئة، وقد كانت رسالة الجماهير الشابة، ألتراس وغيرها، التى حضر ما يقرب من ٢٠ ألفا منها إلى ستاد مختار التتش بالجزيرة، ثالث أيام العيد، فى حشد مرعب ومخيف بالمقارنة بمساحة الملعب، دون أن يصاب أحد بأذى، أو يلقى طوبة، أو يتزاحم، ووقفوا جميعا حول الملعب، بعد أن دخلوا منظمين، وكذلك خرجوا منظمين، يؤكد أنهم ليسوا دعاة معارك أو خناقات، بل أصحاب حق فى العودة الكريمة للملاعب، ثم كانت الرسالة الثانية لمن يفهم عدم هتافهم ضد الجيش والشرطة، كما كان يحدث من فئة محتقنة أو مسيسة منهم فى السابق، ما يشير إلى أنهم استجابوا لصوت العقل، والحوار الذى فرضته عليهم إدارة الأهلى بقولها «أنتم سند ناديكم وقوته وصفقته الرابحة، وسنقف معكم حتى وإن كان الرحيل مصيرنا، شرط ألا تشتبكوا مع مؤسسات الدولة، فالتشجيع للكرة، وليس للسياسة مكان فى ملاعبها».
هذه كانت رسالة الجماهير وإدارة الأهلى، كما فهمتها، وهى رسالة ترد على الاستراتيجية الأمنية، التى تتعامل بها بعض مؤسسات الدولة، والتى صنفت الجماهير فى عمومها كفئة ضالة وخارجة على القانون وإرهابية يجب ضربها أينما وجدتها.
وبات ضرورياً أن يتم استغلال هذا الحدث لوضع صياغة جديدة تضمن حقوق الجماهير فى التشجيع، وتحفظ كرامتها، وفى الوقت نفسه تعاقب من يخرج على القانون، ويستغل المدرجات فى هتافات معادية للدولة أو مسيسة.
ثانياً: استجابة رئيس الوزراء لنداء «الأهلى» وجماهيره، ورد الحق إليهم فى تحديد الملعب المناسب للمباراة، وليس ملعب الجونة السيئ، الذى حددته وزارة الداخلية، وأرادت أن تفرضه جبراً، ودون وجود ظروف قهرية، لكسر عنق إدارته، لمجرد أنها تدافع عن حقها، وشاركها فى ذلك اتحاد الكرة ووزارة الشباب والرياضة، كان ذلك بالتأكيد أمراً جيداً، لكن الأكثر أهمية وتقديرا هو موافقة المؤسسة العسكرية على استضافة المباراة فى ملعب برج العرب، لتترفع بذلك على الصغائر وتسمو على خطأ فئة من الجماهير المسيسة أو المحتقنة أو المستغلة، استغلت المدرجات فى وقت سابق، وتقتل بقرارها الفتنة التى كادت أن تقع عندما خرج مسؤول زملكاوى، وادعى أن المؤسسة العسكرية غاضبة من الأهلى وجماهيره، وأنه يتوسط لالتماس عفوها، ثم اتبع تصريحاته ببيان خطير وحساس مثير للفتنة من مجلس إدارة الزمالك، وضع فيه المؤسسة العسكرية فى خلاف مع جمهور الأهلى العريض، وهو كلام لو تعلمون عظيم، فإعلانه بهذا الشكل الفج يضع تلك المؤسسة الحامية لشعبها، التى يضحى رجالها بأرواحهم دفاعا عنا، فى خلاف مع قطاع من الجماهير، ويدخلها فى جدل حول «من تشجع؟ ومن تحب؟ ومن تكره؟»، فالمؤسسة العسكرية ملكنا جميعاً، لذا كان قراراها حاسماً وقاطعاً وسريعاً بإقامة القمة على ستاد برج العرب، ويجب أن تستكمله بأن تعيد فتح جميع ملاعبها لاستضافة مباريات الدورى بالجماهير، حتى ننجوا بأنفسنا من العبث الذى يقودنا إليه البعض، وما حدث فى ستاد الدفاع الجوى، وسقوط شهداء من جماهير الزمالك كان نتيجة أخطاء تنظيمية، ما زال مرتكبها حرا طليقا، وهى أخطاء لا تتحملها إدارة ستاد الدفاع الجوى، فهى المستضيفة وليست المنظمة، ولو أحسنا استغلال ما حدث فى ستاد مختار التتش، فإن الجماهير ستعود وتهتف لجيشها، وهو يستحق.
ثالثاً: من بداية الموسم كتبت فى هذا المكان محذراً من تحميل وزارة الداخلية المسؤولية الكاملة عن تأمين المباريات فى ظل الظروف الصعبة التى تمر بها البلاد، وانشغال رجالها بمواجهة إرهاب أعمى وغبى، وجماعة تستبيح قتل شعبها، ولمت اتحاد الكرة ووزارة الرياضة على رخاوتهما وهروبهما من المسؤولية بتحميل الداخلية مهمة تحديد أماكن المباريات ومواعيدها، حتى جاء تصريح وزير الشباب والرياضة على شاشة التليفزيون، وقوله «لما الأمن يقول نلعب فى الجونة، نقول حاضر»، وكأن الأمن هو منظم المسابقة، ثم كان الأخطر فى هذه الأزمة هو الربط بين إقامة المباراة فى الجونة والمصلحة الوطنية، وبالتالى فإن من يرفضها فهو بالضرورة ضد المصلحة الوطنية، وهنا يغيب معنى المصلحة الوطنية، ويجرى تسفيه وتقزيم قيمة الكلمة، وهو كلام يحمل فى مضمونه إسقاطا للوطنية عن إدارة الأهلى وجماهيره، فاللعب بالألفاظ من أجل التنصل من المسؤولية خطر، كما أنه يرسخ الانطباع لدى الرأى العام بأن من يطالب بحقوقه القانونية، وبالطرق المشروعة، قد تسقط عنه الوطنية إذا لم يستجب لقرار الأمن، بينما من يشتم ويلعن ويهين الناس ويرهبهم، هو الوطنى، لأنه يسمع كلام الأمن، لذا كان قرار رئيس الوزراء، واستجابة المؤسسة العسكرية لحل الأزمة، نازعاً لفتيل أزمة نفسية وحاجز معنوى جديد بين الدولة وجماهير الكرة.
رابعاً: أكدت هذه الأزمة أن رئيس مجلس إدارة الأهلى، المهندس محمود طاهر، بقدر هدوئه، كانت صرامته فى الدفاع عن حقوق ناديه، وبنفس القدر تمسكه واحترامه لمؤسسات الدولة وجيشها وشرطتها، وحرصه فى الوقت نفسه، على مصلحة جماهيره وحمايتهم من المفرمة التى يريدها بعض أطراف فى الدولة تكره الجماهير، بسبب خلاف قديم، وتسعى لتعميم خطأ قلة قليلة فى طريقها للزوال.
والأهم أن الأهلى كان أكثر الحريصين على مصلحة اللعبة، فبينما كان الجميع يذهب لإقامة بطولة الدورى من مجموعتين، استجابة لرغبة الأمن، وخوفاً من لقاء الأهلى والمصرى، كانت إدارة الأهلى الأكثر شجاعة، وتمسكت بلعب البطولة من مجموعة واحدة.
ما يحزن أن المحترم، الجاد، النظيف، المهذب، المتفانى فى عمله، المخلص لقضيته، من الصعب أن يجد له مكانا فى هذا الزمن، حيث يريد البعض (ولن ينجحوا) فى أن تكون الغلبة فيه للصوت العالى والعابثين.
أما عن فوز الأهلى على الزمالك بهدفين، فهو من الانتصارات التى يطلق عليها (أربعة فى واحد):
الأول كروى، حيث حصد الأهلى النقاط الثلاثة. والثانى فنى، بتفوق كاسح لفريق متعملق أمام منافس متقزم. والثالث جماهيرى، بانتصار إرادة جماهير الأهلى فى مؤازرة فريقها قبل المباراة بشكل مثالى. والرابع إدارى، حيث وقف مجلس الأهلى على قلب رجل واحد وإدارة أزمة المباراة بحرفية وحنكة، وفرض إرادة الحق على دعاة الباطل وأصحاب الصوت العالى.