لم يجل بخاطر «المغامرين العشرة»، الباحثين عن الثراء السريع أن رحلتهم الخطرة في وادى اللقيطة، ستكون المحطة الأخيرة في حياتهم، فهم ينتمون لطبقات اجتماعية وثقافية مختلفة، وقائدهم رجل في الستينيات من عمره، كان مرشحا لمجلس الشعب بسوهاج، ويدعى «م. ر»، وآخر أربعينى، عامل يومية بسيط، يدعى «ر. ح»، ومرشدهم شيخ أردنى، يدعى «ف. ع» يعيش في وادى النطرون، جمعهم هذا القائد من مختلف المحافظات ليشكل فريقاً يؤمن بخرافة العثور على الكنز، ليبدأ معهم رحلة الموت في الصحراء.
لم يصطحبوا معهم دليلاً للطريق، مطمئنين لوجود شيخهم المؤمن بأساطير تراثية وطقوس سحرية بالية، توارثها البسطاء منذ قديم الزمان.
لم يعيروا اهتماماً بدراسة متأنية للمكان، ولم يتخذوا زاداً ولا ماء كافيين لرحلتهم، وأدى تحطم «أكس» سيارتهم رقم «ص. و. ر– 6352» إلى تبخر أحلامهم في قلب صحراء جرداء لا تعرف الرحمة، بعد أن قطعوا مسافة 76 كيلو مترا بهذه السيارة، وتبدلت آمالهم من العثور على الكنز إلى الحصول على رشفة ماء.
اندفعوا منفردين في قلب الصحراء بحثاً عن النجاة، وأدى انقطاع وسائل الاتصال بينهم وبين معارفهم الذين لم يبلغوهم بأمر رحلتهم السرية إلى قضائهم أياماً صارعوا فيها الموت، وكانت النهاية الحتمية هي تفحم أجسادهم على الصخور الساخنة بتلك المنطقة، ولم ينفعهم دجل شيخهم ولا قدراته السحرية، ونجا منهم بأعجوبة شاب سكندرى ثلاثينى يدعى «س م س»، أنقذه القدر ورجال الشرطة، وبقى حياً ليكون شاهداً على نتيجة مغامرة غير قانونية ورحلة مأساوية.
كانت هذه المأساة هي خيط البداية لــ«المصرى اليوم»، في رحلة مغامرة داخل وادى اللقيطة، حجر الزاوية لمشروع المثلث الذهبى، والطريق التجارى القديم الذي أعده ملوك الدولة الفرعونية الحديثة، وعلى رأسهم الملكة حتشبسوت، ورحلتها الشهيرة لبلاد بونت، كما أن هذا الطريق كان يسلكه «الحجاج» وسمى بطريق الحجازية.
البداية من شرق محافظة قنا، على امتداد طريق (مدينة قفط- القصير) الصحراوى، تزودنا في بداية رحلتنا بجميع الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب، في سيارة دفع رباعى لتلائم وعورة الطريق.
اعتمدنا على دليل من قاطنى الصحراء، شاب ثلاثينى أسمر الملامح يدعى «م. أ»، ممن يعرفون عن ظهر قلب الدروب والمسالك الصحراوية، وبمجرد الوصول إلى أحد المدقات بدأت المغامرة المحفوفة بالمخاطر، وصعوبات الطريق.
لم تكن حرارة الجو أقل من خطورة المغامرة، حيث تخطت الــ46 درجة مئوية، وساهمت وعورة المدق الصحراوى في بطء حركة السيارة، ولم تتعد سرعتها الـ20 كيلو مترا في الساعة.
على جانبى المدق، تظهر جبال متوسطة الارتفاع في صحراء تكسوها رمال ذهبية نقية كأنما تعبر عن الثروات الطبيعية والكنوز التي تحويها المنطقة، وانقطعت شبكات الهواتف المحمولة بعد دقائق معدودة وانفصلنا عن العالم.
وفى الطريق ظهرت آثار سيارة سبقتنا، فأكد لنا الدليل بخبرته أنها مرت قبلنا بساعات قليلة، وبدأنا في تتبعها، وبعد أكثر من 20 كيلو مترا داخل الصحراء اكتشفنا وجود حفر كبرى في أعلى الجبال، وبسؤالنا عن هذه الحفر أجابنا الدليل بأنها عمليات حفر عشوائية قديمة فاشلة لأشخاص حاولوا التنقيب عن الآثار لكنهم لم يجدوا شيئاً، ثم تطرق الحديث عن الحادثة الأخيرة لـ«المغامرين العشرة» الذين توفوا بعد أن تعطلت سياراتهم منذ أيام فقال «هؤلاء لم يعتمدوا على دليل مكتفين بوجود الشيخ (الدجال) فماتوا عطشاً»، لافتاً إلى أن البدو والعرب على علم تام بطبيعة المنطقة وتضاريسها ويعتمدون على وجود علامات صخرية منذ عصور الأجداد، تشير لأماكن تواجد المياه والطعام والإيواء داخل الكهوف والجبال.
قص لنا الدليل قصة شيخ مغربى دجال تحاور معه وتحداه بأنه سيجعله يعثر على الكنز دون أن يتقاضى منه أجراً لكى يثبت له مهارته في هذا المجال، وتركه يعمل لمدة أسبوع دون جدوى، وأكد لنا الدليل مجىء كثيرين هاربين من أحكام، يتنكرون في هيئة شيوخ مغاربة، فمن جهة يجدون المأوى ومن جهة أخرى يعتمدون في رزقهم على السذج من عاشقى الثراء السريع، معقباً بلهجته الصعيدية «كله بيضحك على بعضه وبياكل عيش».
وتابع: «المنطقة لا تحوى أي آثار أو كنوز، ونحن نترك هؤلاء المغامرين يعملون لأنهم أسرى اعتقادهم بأن المكان يحوى كنوزاً سرية»، معلقا: «على كل حال إذا وجدوا شيئاً فلن نتركهم يتمتعون به بمفردهم».
واصلنا السير وتتبعنا آثار السيارة حتى اختفت عند الكيلو 45 بالقرب من حوض أثرى قديم، تم تخصيصه لتجميع مياه الأمطار أثناء الرحلات التجارية لقدماء المصريين، ثم بدأنا السير على الأقدام برغم وعورة الصخور، والتقطنا صوراً لهذا الحوض الذي لم نلاحظ عليه أي نقوش قديمة تؤرخ للحقبة التي بنى فيها، وأسفل هذا الحوض من الجانب الآخر اكتشفنا حفرة كبيرة، لم نستطع تحديد عمقها من ضخامته.
وجدنا خيمة تبعد عن الحفرة بحوالى 15 متراً، ظننا في بداية الأمر أنها تخص أحد البدو أو العرب، لكن الدليل أكد لنا أن البدو أو العرب لا يقيمون خيامهم في هذا المكان، وبالاقتراب منها وجدنا بجوارها حبالاً كبيرة الحجم وأدوات حفر وجهازاً لتوليد الكهرباء، وبراميل مياه وأقفاصاً مليئة بالطعام، بدأنا في التقاط صور فوتوغرافية خلسة وبمجرد اقترابنا أكثر من الخيمة خرج منها 4 أفراد حاملين العصى ويشبهون «المطاريد»، اقترب منا شخص حاد الملامح عمره يتخطى السبعين عاماً ويطلقون عليه لقب «الحاج».
سألنا عن سبب تواجدنا في هذا المكان، فأخبرناه بأننا جئنا لاستطلاع المكان، حيث نقوم بمسح «جيولوجى» أثرى للمكان فلم يفهم ردنا لكنه أطمأن لنا حين تيقن أننا لسنا من رجال المباحث.
طلب منا أن نبتعد عن الخيمة، وألا نقوم بتصويرهم أو تصوير مكان الحفر، وهو ما فعلناه خلسة، ثم أعد لنا أكواب الشاى، وتطرق الحوار معه ومع أقرانه عن سبب تواجدهم في هذا المكان النائى. وهو ما لاقى اعتراضا من قبل الشيخ (م. أ) المصاحب لهم، وهو رجل خمسينى يرتدى ملابس بيضاء مطلق اللحية ويمسك في يده عصا خشبية.
قال لنا بلهجة حادة: «انتوا بتسألوا ليه؟! فأجبناه أننا نسأل لمجرد المعرفة بالمكان وبدأنا في استدراجه للحديث بسؤاله عن عدم ثقتنا فيما يدعيه الشيوخ بخصوص الكنوز المخبأة في هذه الأماكن البعيدة وهو أمر لا جدوى منه، وهو ما لاقى اعتراضاً منه، مؤكداً أنهم تأكدوا من وجود آثار في المنطقة بعد أن استخدموا أجهزة «استشعار» حديثة، على حد قوله، قائلاً بلكنة صعيدية: «الناس واخدين فكرة غلط عن الشيوخ هما مش دجالين ولا بتوع سحر، إنما بنستخدم العلم، ودورنا هو فك الطلاسم والرصد الشيطانى فقط، بعد تحديد منطقة وجود الأثر».
وعند سؤالنا عن حرمانية التنقيب عن الآثار ومخالفتها للشرع والقانون أجاب: «اللقية دى رزق من ربنا، ولا أحد يتحكم في رزقه أو في أرزاق الآخرين»، وقاطعه الحاج ساخراً: «يعنى هي حرام علينا وحلال على رجال الأعمال».
ظهر في المشهد شاب خامس في الثلاثين من عمره يدعى «م»، يرتدى ملابس داخلية متسخة وممزقة نتيجة الحفر تحت الأرض فسأله الشيخ: «وصلتوا لفين يا ابنى؟» فأجاب: «وصلنا لأكثر من 20 مترا يا مولانا ولسه ما ظهرش حاجة»، فدعا له الشيخ بالتوفيق.
طال حوارنا لأكثر من نصف ساعة، وتم التطرق لتكلفة عمليات الحفر في هذه الأماكن فرد الحاج: «دفعنا أكثر من 150 ألف جنيه لشراء المعدات وجهاز الهيلتى المناسب للحفر في هذه الأماكن وجهاز توليد الكهرباء، وكذلك لتدبير احتياجاتنا اليومية من طعام وشراب»، مشيراً إلى أنهم يعملون منذ شهرين تقريباً ويأملون في العثور على ما يعوضهم عن هذه المصاريف الباهظة.
وحين أكدنا له بأن المكان يخلو من أي شواهد أثرية قديمة، ما يؤكد عدم عثورهم مستقبلاً على أي شىء، أجاب الحاج مستهجناً: «يا عم حرام عليكم متحبطوناش»، وبسؤالهم عن معرفتهم بالحادث الذي وقع مؤخرا وراح ضحيته 8 أشخاص وفقدان آخر، قالوا: «لم نعلم شيئاً لأننا فاقدون الاتصال بما يحدث خارج هذا المكان». وعلق الحاج قائلاً: «اللى مش قد الصحراء أحسن له يقعد في بيته».
وبسؤاله بطريقة غير مباشرة عن المخاطر التي يتعرضون لها في هذا المكان الموحش أجاب الحاج: «معانا سلاحنا وبيحمينا من البنى آدمين ومن الحيوانات».
ثم استخرج الشيخ ثعباناً بيده كان قد دفنه لتوه في الرمال وعقب: «احنا جاهزين لكل المخاطر»، ثم أظهر لنا آثار لدغة عقرب أصابته منذ عدة أيام وقام بتشريط قدمه لاستخراج السم، ما يطلق عليه اسم (المحاواة).
وعن إمكانية تركهم المكان، قال الشيخ: لن نترك المكان إلا عندما نجد الكنز، وهو ما أثار غضب الحاج قائلاً: «عايزنى أمشى ونسيبها لغيرنا يكمل على حفرنا بالجاهز؟».
وعند اقتراب الغروب، بدأنا في التأهب للرحيل، وبعد أن هنأناهم بقدوم شهر رمضان الكريم وتبادلنا السلامات والتحيات، مؤكدين علينا مرة أخرى سؤالهم إن كنا من رجال المباحث أو ممن سيتسببون لهم في أي ضرر فأكدنا عليهم مرة أخرى بأننا جئنا لزيارة المكان الذي سنقوم فيه في فصل الشتاء المقبل بإجراء مسح جيولوجى أثرى.
وفى طريق العودة بدأ الظلام يحل، وقد ساعدنا في تلمس الطريق الكشافات الكبيرة التي نصحنا الدليل بتجهيزها، ولاحظنا وجود سيارات تتجه نحو حفر جبلية لاستئناف عمليات التنقيب. ووصلنا إلى مدينة قفط بعد أن قضينا أكثر من 6 ساعات في الصحراء بعد أن رأينا وعايشنا المكان والزمان والباحثين عن الوهم في جوف الصحراء.
توجهنا في اليوم التالى إلى قسم شرطة قفط لمعرفة كواليس الحادث الذي راح ضحيته 8 أفراد، والتقينا بالنقيب إسلام محمد، معاون أول مدير مباحث قفط، والذى اكتشف جثث الضحايا في جوف الصحراء بعد مغامرة استمرت أكثر من 7 ساعات بمجهودات قوات الداخلية.
قال لنا النقيب إسلام: «فى البداية تلقينا بلاغا من شخص يدعى شوقى، في 11 يونيو، وطالبنا بالبحث عن أخيه قائد السيارة، ويدعى (ح.ح) متغيب عن منزله منذ 2 يونيو»، مضيفاً: صاحب البلاغ فشلت محاولاته في البحث عن أخيه، والتى استمرت أكثر من ثلاثة أيام، لكنه بعد ذلك فضل الاعتماد على الداخلية.
وأضاف إسلام: بدأنا في تمشيط المنطقة على بعد 45 كيلو داخل الصحراء بالاعتماد على الأدلة وبعد أكثر من ساعتين عثرنا على جثتين لـ«ح. ح»، و«ح. أ»، وكانتا أشبه بالقطع المتفحمة من شدة الحرارة، وبعد 6 كيلو مترات، وجدنا 3 جثث أخرى، وهى لـ«م. ر»، و«ف. ع»، و«ر. ح».
واستطرد: «بعد 7 كيلو مترات عثرنا على جثة شخصين من الإسكندرية هما «و. م»، و«س. م»، الناجى الوحيد من الحادثة بعد أن تمكن من شرب مياه الرادياتير الخاصة بالسيارة، فكتب له عمر جديد بعد تلقيه الإسعافات الأولية ليكون شاهدا على الحادث».
وواصل: «عثرنا في اليوم الأول على 6 جثث تفرقت أماكنهم، كما وجدنا السيارة التي كانت تقلهم في الكيلو 76، والتى تسبب عطلها في هذه الكارثة، وفى يوم 16 يونيو، قمنا بتمشيط المنطقة مرة أخرى برجال الداخلية، وعثرنا على جثتين، الأولى من الإسكندرية لـ«م. أ»، والثانية من الأقصر لشخص يدعى «ح. أ».
وتابع: عندما تناقشنا مع الناجى الوحيد من الحادثة اعترف لنا بالخديعة التي دبرها لهم الشيخ (ف. ع) والذى جمعهم من مختلف المحافظات ليروى لنا تفاصيل وكواليس الحادث، قائلا: في المحضر الذي تم تحريره، «إنهم رأوا الموت بأعينهم بعد تعطل (أكس) السيارة، فحاولوا إصلاحه لمدة ساعتين لكن دون جدوى، ونفدت المياه ونفد حلمهم بالثراء، وأصبح هدفهم هو النجاة والخروج من الصحراء».
وأضاف الناجى الوحيد: «نظمنا أنفسنا في مجموعات أول يوم ذهب اثنان لكنهما لم يعودا، وفى اليوم الثانى خرج (ر. ح)، لكنه لم يعد أيضاً، فقررنا في اليوم الثالث أن نعتمد على أنفسنا للنجاة فواجهنا الموت». واستطرد: «لولا أنى شربت من مياه الرادياتير من السيارة كان زمانى متفحم مع باقى الجثث». من جانبه، علق اللواء حافظ محمد حسين، مدير شرطة السياحة السابق بالأقصر، الذي تولى رئاستها منذ عام 1990 حتى 2010، على ظاهرة التنقيب عن الآثار، قائلا: إنها بدأت منذ عام 1873 عندما وجدت عائلة الحروبات بالأقصر الخبيئة التي تحوى أكبر عدد من التوابيت والذهب، ولم يقدروا قيمتها وقتها.
وأضاف لــ«المصرى اليوم»: «تم توارث الأساطير وانتشرت بالأخص في الأقصر وقنا وسوهاج وأسوان، لما تحويه هذه المناطق من شواهد أثرية كبرى».
وأوضح أنه في فترة السبعينيات بدأ المشعوذون الذين يطلق عليهم «الشيوخ» في طرق أبواب قاطنى المناطق الأثرية ليوهموهم بان منازلهم يتواجد تحتها الكنز، وهو ما أدى إلى ظهور فكرة الممرات الأرضية داخل المنازل، مشيراً إلى أن أغلب الشيوخ قادمون من المغرب والأردن.
وتابع: «بدأ الشيوخ في ممارسة دجلهم ليخدعوا العديد من الأبرياء ونسجوا لهم أحلاما وهمية حول الثراء السريع دفعت عدداً كبيراً منهم للتضحية بدماء أبنائهم الأطفال من أجل فك الرصد المتواجد حول الأثر تحقيقا لمطالب شيوخهم الدجالين».
وواصل: أتذكر حادثة وقعت في دشنا عام 1994، حيث أنقذنا وقتها طفلاً صغيراً لا يتعدى ثلاث سنوات قبل ذبحه بدقائق وألقينا وقتها القبض على هذه المجموعة التي كان يقودها شيخ مغربى، واستطرد: «الشيوخ يوهمون الناس بأن فك طلاسم الأثر يحتاج إلى أنواع من البخور في أحيان أخرى يطالبون بذبح أطفال ويستنزفون أموال الغلابة.
وحول أهم الحوادث التي تم رصدها خلال العشرين عاماً الماضية، قال حسين: رصدنا أكثر من 1000 حالة تنقيب سرى عن الآثار في العديد من الأماكن بالأخص في المنيا وبنى سويف والأقصر وأخميم بسوهاج، لافتاً إلى أن هيئة الرقابة الإدارية تمكنت من إنقاذ تمثال «منكورع الذهبى» عام 1999 قبل بيعه، فضلا عن إنقاذ مئات القطع الأثرية. وحول وادى اللقيطة، قال حسين إن أهالى البدو قاموا بالإبلاغ عن العديد من حالات التنقيب عن الآثار لكن أغلب هذه العمليات لم تسفر عن كشف آثار في هذه المنطقة، معتبراً الحادثة الأخيرة هي أكبر الحوادث التي وقعت في هذا الوادى.