كان المشهد ضبابيًّا نهار «الأربعاء الدامى»، فالأخبار الواردة من شمال سيناء، وتحديدا مدينة الشيخ زويد، لا تبشر بخير، معركة حامية تواجهها قوات الجيش والشرطة بشراسة.
وسائل إعلام تتحدث عن عشرات الشهداء والمصابين، ساعات طويلة مرت كأنها الدهر، حتى خرج بيان القوات المسلحة فى المساء ليلثج الصدور ويريح القلوب المشتعلة، ليتضح للجميع أن الجيش المصرى لقن التكفيريين درسا لن ينساه من تبقى منهم على قيد الحياة.
كانت التفاصيل الواردة عبر الهاتف تروى مشاهد مرعبة عما حدث.. خطة أعدتها مجموعات تكفيرية مسلحة للسيطرة على مدينتى الشيخ زويد ورفح، ورفع أعلام داعش على مصالحها الحكومية، تمهيدا لإعلان ما يسمى «ولاية سيناء»، رسميا، على غرار ما يحدث فى العراق وسوريا.. إلا أن القوات المسلحة كان لها كلمة أخرى وحسم « نسور الجو» المعركة ببسالة وحزم.
ورغم مرور أسبوعين على أحداث «الأربعاء الدامى»، فالوضع ما زال خطيراً بكل تفاصيله، على الأهالى والوافدين والصحفيين، فالشيخ زويد تحولت إلى منطقة عسكرية مغلقة، لا يرتادها سوى الخارجين أو النازحين منها.
فكرة دخول المدينة كانت حلما صعب المنال بالنسبة إلينا، فالمخاطر كبيرة ولا مجال فيها للعب بالنار.. ويكمن الخطر الرئيسى فى كمائن المسلحين، التى ينصبونها على الطريق الرئيسى أو الطرق الفرعية للقبض على أى فرد من الجيش والشرطة أو موظفى المصالح الحكومية أو الصحفيين، رغم أن زمن نصب الكمائن لا يتعدى بضع دقائق فقط، إلا أنهم يثبتون فيها وجودهم، ويلتقطون الصور والفيديوهات لتسويقها، لإيهام المجتمع بوجودهم على الأرض، بالضبط، فهم مثل الخفافيش يظهرون لحظات ينقضون خلالها على فريستهم ويهربون دون قدرة على المواجهة الحقيقية، فإنهاء حياة كل من يؤيد فكرة دعم الدولة ويساند الجيش والشرطة فى معركتهما ضد الإرهاب- هو أول اختيارات هؤلاء الإرهابيين.
القتل هنا تحت غطاء التعاون مع الدولة المرتدة الكافرة، التى يحكمها «انقلابيون»، وفقاً لقناعة ومنهج التكفيريين المسلحين، لكن هذا لا ينهى خوفنا من فكرة القبض علينا من قبل قوات الجيش أو الشرطة بحجة الدخول إلى منطقة عمليات عسكرية، واصطحاب كاميرات تصوير والدخول دون تصريح، ورغم عدم إعلان مدينة الشيخ زويد منطقة عسكرية بقرار رسمى، فالواقع الذى رأيناه بأعيننا أن قوات الجيش وأجهزة الأمن يتملكها الخوف على حياة الصحفيين من دخول هذه المنطقة بسبب العناصر الإرهابية الموجودة بها، وهو خوف مشروع ويمكن تفهمه، فالصراع المسلح بين جيش نظامى لديه قدرات تسليحية كبيرة ومدرب على مواجهة جيوش دول نظامية من جانب، ومجموعات مسلحة إرهابية تلدغ وتهرب من جانب آخرى تسمى فى العلوم العسكرية «حرب غير شريفة»، وانعدام الشرف هنا يرتبط بطريقة تنفيذ الجماعات الإرهابية لعملياتها.
بدأنا الإعداد لدخول الشيخ زويد فى مغامرة غير محسوبة المخاطر والخسائر.
فى تمام الثانية عشرة ظهراً كانت نقطة الانطلاق من أمام الفندق الذى نقيم به فى العريش، 35 كيلومترا تفصلنا عن الشيخ زويد، وهى مسافة يمكن قطعها خلال 25 دقيقة فى الأحوال العادية، لكن الأهالى أخبرونا بأنهم يقطعونها فى ساعات، تصل فى بعض الأحيان إلى 7 ساعات إذا كانت الكمائن فى حالة استنفار، 3 أشخاص رافقونا فى الرحلة، وانطلقنا، عبر طريق كمين المزرعة (جنوب العريش)، ومنه اتجهنا إلى طريق جانبى، ومنه إلى طريق آخر متفرع من الطريق الرئيسى، لنصل إلى الطريق الدولى (العريش ـ رفح)، عند منطقة جرادة، التى تبعد عن الشيخ زويد نحو 10 كيلومترات.
وفى الطريق رصدنا كل شىء، ففى جرادة كان الكمين الأول الذى مررنا به، (عبارة عن مدرسة) اعتلاها التكفيريون، وأطلقوا منها النيران والقذائف على قوات الجيش المتمركزة فى الموقع. دمرت النيران أجزاء كبيرة من المدرسة، فنصبت قوات الجيش كمينا داخل المدرسة، لتجنب استخدامها ستاراً من قِبل التكفيريين.
دبابات ومجنزرات وجنود وضباط فى كل موقع.. المكان يصعب مهاجمته، لأن الكمين فى موقع مرتفع يرى كل من يقترب منه، وفى طريق (العريش - الشيخ زويد)، أصبح السير عبر الاتجاهين ذهاباً وإياباً فى جانب واحد، من الطريق المزدوج وأغلق الجانب الأيمن من الطريق لاعتبارات أمنية.
واجَهَنَا جندى متأهب فى شمس حارقة يسأل عن هوياتنا ويطلع عليها قبل أن يسمح لنا بالمرور «اتفضلوا»، وماهى إلا دقائق لم تتجاوز حتى وصلنا كمين «العبيدات»، الذى استشهد فيه نحو 7 جنود وضباط فى إبريل الماضى، عندما هاجمه مسلحون، واستولوا على أسلحة أفراد الكمين، وفقاً لشريط الفيديو، بثه تنظيم «ولاية سيناء» المزعزم، بعد الحادث بأيام.
تغير شكل الكمين تماماً من خلال ارتفاع السواتر الترابية وزيادة عدد القوات بشكل كبير، حتى أصبح وحدة عسكرية مستقلة، واللافت للنظر كان هناك عمود مرتفع مزورع به كاميرات ضخمة، يقول مرافقونا من سكان المنطقة: «إن أجهزة الأمن زرعت هذه الكاميرات، منذ أيام، لتصوير المناطق المحيطة لمسافات بعيدة»، وهنا لم يسألنا الجندى عن الهوية الشخصية، ويظهر فى الكمين رجال الجيش فى وضع التأهب.. قذائف آر بى جى.. قواذف الإطلاق مستعدة للضرب فى أى لحظة.. وفوارغ طلقات رصاص من النوع المتعدد، متناثرة على الأرض.. دقائق أخرى تمر حتى نواجه كمينا جديدا.
نحن الآن أمام كمين يطلق عليه الأهالى كمين «الصرف الصحى»، نظراً لارتباطه باسم المنطقة التى نُصب الكمين فيها.. لحظات أخرى وكنا على موعد مع كمين «الخروبة»، وهو كمين عتيق موجود منذ سنوات طويلة، اطلعت القوات على الهويات وجرى تفتيش السيارة وفى النهاية سمحوا لنا بالمرور.. والدقائق تمر فى ترقب وخوف، مساحات شاسعة من الصحراء تتخللها بعض المنازل على جانبى الطريق، مزارع الزيتون غير موجودة، بعد تجريفها، والموجود منها على جانبى الطريق لأسباب أمنية.. منازل تهدم بعضها بفعل المواجهات المسلحة، بينما يظهر على بعضها آثار حريق.. دقائق ووجدنا أنفسنا أمام كمين «قبر عمير»، الكمين الذى تعرض لهجمات متعددة وسقط على رماله شهداء من قوات الجيش، وقتلت القوات عدداً ليس بالقليل من التكفيريين، حاولوا مهاجمة الكمين مرات عديدة، مررنا منه بسلام.
وفى الاتجاه المعاكس كانت السيارات المحملة بالأثاث المنزلى تتسارع عجلاتها فى اتجاه مدينة العريش.. تمر دقائق لنواجه كمينا تلو الآخر، ليأتى كمين الإسعاف، فى منقطة تابعة لقرية «قبر عمير»، ليصبح هناك كمينان فى القرية استهدفا إحكام القبضة الأمنية على المسلحين فى كل مكان.
كلما اقتربنا أكثر من مدينة الشيخ زويد تمتمنا بالحمد والشكر، لأننا قطعنا الطريق الرئيسى دون مواجهة كمائن التكفيريين المسلحين، كان مرافقونا يطمئنوننا من وقت لآخر بقولهم: «ضربة الجيش للتكفيريين يوم الأربعاء الدامى قصمت ظهورهم ولم يعودوا لنصب أى كمائن على الطرق»، مؤكدين أنهم فى حالة اختفاء تام، بعد الضربة الموجعة للجيش والشرطة، وأن اختفاءهم للملمة جراحهم وعلاج مصابيهم وحصر قتلاهم الذين يعدون بالمئات.
كانت الأجواء هادئة تماماً على الطريق الرئيسى، وما ساهم فى منع المسلحين من نصب كمائن وتفتيش المارة، نتيجة مضاعفة كمائن الجيش والشرطة على الطرق، وفقاً لكلام مرافقينا الثلاثة.. وصلنا إلى كمين «الشلاق»، وهو الكمين قبل الأخير عند مدخل الشيخ زويد، ونظراً لأن الطريق مغلق عند كمين بوابة الشيخ زويد؛ فكان علينا نسيان المرور من كمين «البوابة»، لنعتبر أن كمين «الشلاق» هو الأخير على هذا الطريق. وعند وصولنا سلكنا مدخل الشيخ زويد الشمالى، (أقصى يسار الطريق الدولى)، لندخل المدينة من الخلف.
شاهدنا منازل متفرقة على أطراف الشيخ زويد، بجوارها مزارع الخوخ والزيتون، ما يصادف موعد حصاد الخوخ، وتابعنا الأطفال والسيدات يجلسون على جانبى الطريق بأقفاص صغيرة يعرضون من خلالها ثمر الخوخ الطازج، توقفنا عند أحدهم الطفل «أحمد»، وسألناه عن ثمن قفص الخوخ فقال: «القفص الواحد بعشرة جنيهات، ويزن 4 كيلو ونصف من الخوخ الطازج». وأكد أنه حصده للتو من أغصان الشجر، اشترينا منه قبل دخولنا المدينة.
دخلنا إلى عمق المدينة.. وصلنا أول أحياء المدينة، (حى السكة الحديد)، كان المشهد قلقاً وحذراً، الأعين تترقب القادم والخارج.. أصحاب الأرض فى انتظار المجهول، يجلسون على جانبى الطريق، فى حلقات دائرية، فى ظل حائط أو الأشجار فى أوقات الصيام ودرجة حرارة شديدة الارتفاع.. هنا إطارات كاوتش محترقة وبقعة قاتمة السواد وسط الطريق.. سألنا مرافقينا وهم من سكان الشيخ زويد الذين شاهدوا أحداث «الأربعاء الدامى»؛ فقالوا: إن هذه البقعة لها حكاية، عندما دخل المسلحون لمهاجمة قوات الجيش فرضوا طوقاً على مداخل المدينة، وأشاروا إلى مدرسة بجوار البقعة السوداء، (مدرسة السكة الحديد)، وأضافوا أن المسلحين اعتلوها وبدأوا فى إطلاق النار على قوات الجيش، وقسموا أنفسهم مجموعات|؛ الأولى صعدت إلى سطح المدرسة لتتبادل إطلاق النار مع قوات الجيش والشرطة، وأغلقت المجموعة الثانية الطريق وبدأت فى زرع العبوات الناسفة على جانبيه، لمنع وصول الإمدادات العسكرية والطبية، واقتحمت الثالثة باب أحد محلات الكاوتش المجاورة للمدرسة، ووضعت الإطارات على قارعة الطريق وأحرقتها بكميات كبيرة، ليتصاعد منها دخان كثيف فى المنطقة، ما يؤدى إلى أن يفقد قائد الطائرة الحربية القدرة على رؤية المسلحين، ولا يستطع إصابتهم بقذائفه.
كان الميدان الأوسط فى حى السكة الحديد، الحى الهادئ كما يقول الأهالى، هو ميدان الفرن، حيث مخبز العيش البلدى ومحلات السلع الغذائية وإكسسوارات السيارات وغيرها، وموقف صغير للسيارات المتجهة إلى رفح والعريش، لم نتوقف طويلاً فى الميدان لأن الوقت المحدد لزيارتنا المدينة كان محدوداً للغاية، لا يتعدى ساعتين، لتجنب رصدنا من قبل المسلحين.
فى هذا الحى الهادئ التقينا مع أحد الأهالى الذين كنا على اتفاق مسبق معه لمقابلته، وانضم إلى الفريق المعاون لنا فى الرحلة، ويحكى الأهالى أن هذا الحى به منزل «محمد قويدر»، الرجل الذى رفض صعود المسلحين إلى سطح منزله، وصعد خلفهم ممسكاً بسيفه لإنزالهم برفقة نجله البالغ من العمر 16 عاماً، وحدثت مناوشات بينه والمسلحين؛ فبادروه بقنبلة يدوية مزقته أشلاءً ليلقى ربه شهيداً مدافعاً عن وطنه وبيته، بينما يرقد نجله فى المستشفى بين الحياة والموت بعد أن فقد أطرافه خلال انفجار القنبلة.
تحركنا إلى حى «الحمايدة»، هذا الحى الشجاع، الذى تكبد المسلحون فيه أكبر الخسائر، وفور دخولنا الحى رأينا آثار الدمار فى كل مكان.. منازل مدمرة، ورائحة سيارات محترقة تزكم الأنوف، وصلنا إلى منزل أحد الأهالى، الذى رفض نشر اسمه، وشاهدنا بقايا سيارتين محترقتين، وقاعدتين لمدفعين محمولين على السيارتين، شرح لنا صاحب المنزل ما حدث بقوله: «يوم الأربعاء الدامى، حاول المسلحون السيطرة على المدينة والتحكم فى مفاصلها وتكبيد قوات الجيش والشرطة خسائر كبيرة، وجاء المسلحون إلى الحى ووقفوا بجوار منزلى بسيارتين عليهما مدافع مضادة للطائرات، من عيار 14.5 مللى، ومدفع نصف بوصة، واقتحم مجموعة منهم بعض المنازل المرتفعة، وكسروا الأبواب بطلقات الرصاص، ولم يتحدثوا معنا، بل أشاروا لنا بأيديهم بالجلوس فى جانب من المنزل، وألا نتحرك، ليتمكنوا من صعود السطح والاشتباكات مع قوات الجيش والشرطة».
وتابع: «مع صعود أول مجموعة منهم (لا تتعدى 3 أفراد)، وكان كل فرد منهم مخصص للتحكم فى أفراد منزل معين من المنازل التى يرغبون فى صعودها لمنعهم من مقاومة المسلحين، بينما كانت باقى المجموعات المسلحة تجلس على السيارات فى الشارع، وسمعناهم يتحدثون ويتفقون على توزيع أنفسهم على أسطح المنازل بشكل محدد، انت هتشتبك فى الاتجاه ده، والمجموعة دى فى الاتجاه ده.. وهكذا، وبينما هم يتفقون إذا بطائرة F16 تحلق فى المكان فجأة وتقصف صاروخين فقط، كل صاروخ موجه بدقة فائقة فى قلب كل سيارة لتنفجر السيارتين بمن عليهما من التكفيريين، وتمزقت أشلاؤهم قطعاً صغيرة».
ويستكمل صاحب المنزل روايته: «ظلت السيارتان تحترقان لمدة ساعتين، ما تسبب فى انهيار أجزاء من منازلنا بسبب الكمية الكبيرة للعبوات الناسفة التى كانت بحوذتهم داخل السيارتين، والذخيرة التى كان يستخدمها المسلحون، لأنهم كانوا يملأون السيارات بعبوات ناسفة لزرعها على جانبى الطرق المحتمل أن تصل منها الأمدادات العسكرية».
وأوضح: «ظلت الانفجارات تدوى من داخل السيارتين لوقت طويل، وتناثرت أشلاء المسلحين لأكثر من 300 متر بعيداً عن المكان».
وبينما كنا نتحدث مع صاحب المنزل كانت رائحة كريهة تفوح من المكان، فسألناه عن السبب ومصدر هذه الرائحة فقال: «جثث المسلحين تمزقت قطعاً صغيرة وتنائرت بين الرمال وعلى أسطح المبانى، ومازلنا حتى اليوم نعثر على أشلاء متعفنة، ما تسبب فى انتشار هذه الرائحة الكريهة، ولذا نظل طوال اليوم نبحث عن مصدر الروائح الكريهة حتى نجد الأشلاء ونجمعها فى أكياس من البلاستيك ونغلقها جيداً ونلقيها فى مقالب القمامة، ولو استطعنا الذهاب إلى الصحراء خارج المدينة، ونحفر وندفنها، فلم نعد نتحمل العيش فى المكان بسبب هذه الروائح العفنة».
تركنا المنزل وتوجهنا إلى حى الكوثر الذى شهد تمركز عدد كبير من المسلحين، وحكى مواطن من سكان الحى ما حدث قائلاً: «حى الكوثر من الأحياء الهادئة فى الشيخ زويد، ولا يوجد به عناصر تكفيرية، ومعظم سكانه من أبناء الوادى، الذين جاءوا للإقامة فى الشيخ زويد لطبيعة وظائفهم، وهذا الحى يعتبر محورا ارتكازيا ترى منه غالبية المواقع العسكرية والشرطية فى المدينة ويستطيع المسلحون فيه الاشتباك مع القوات الأمنية، لذا جاءوا إلى الحى وصعدوا إلى أسطح بعض المنازل المرتفعة وهددوا الأهالى بالسلاح إذا حاولوا مقاومتهم، وخاضوا اشتباكاً مع قوات الجيش لساعات، ورغم أن الرجال لم يتمكنوا من مقاومتهم بشكل فعال، بسبب خوفهم من الأسلحة والقنابل التى يحملونها، أما النساء فقدمن دورا بطوليا».
وقال: «سيدات الوادى اللاتى لسنَ من أبناء سيناء (قلوبهن جامدة)، وصعدن إلى أسطح منازلهن وضربن المسلحين بالعصى والأحذية، وصرخن فيما يُعرف بـ(الصويت) لكى يخاف المسلحون ويلوذوا بالفرار، وبالفعل حققت هذه الطريقة نجاحاً كبيراً، فالمسلحون يخافون من اكتشاف مواقعهم التى يتبادلون منها إطلاق النيران مع قوات الجيش، وإذا صوتت السيدات يتم اكتشاف مكان المسلحين بسهولة، كما أن المسلحين لديهم عقيدة بعدم الاعتداء على النساء مهما حدث». وأضاف: «سوف أتحدث عن سيدة من الحى لن أذكر اسمها خوفاً من انتقام المسلحين منها، فقد اشتبكت هذه السيدة بالأيدى مع أحد المسلحين وظلت تدفعه من أعلى سطح منزلها الذى لا يوجد عليه سور، حتى سقط من الطابق الثالث وسط الشارع ولقى مصرعه، واستولى الأهالى على سلاحه و6 قنابل يدوية كانت بحوزته، سلموها إلى قوات الجيش فيما بعد إلى أن وصلت طائرات F16 وقتلت عددا كبيرا من المسلحين فى الساعة الرابعة والنصف عصراً، ولاذ عدد منهم بالفرار تجاه البحر شمال المدينة».
وصلنا إلى الشارع الرئيسى فى الشيخ زويد، فمن يعرف معالم هذه المدينة العتيقة يعلم أنها عبارة عن شارع واحد رئيسى، وفيه يقع قسم شرطة الشيخ زويد، هدف المسلحين وقبلتهم الأولى فى كل هجماتهم.. أصبح طول الشارع لا يتعدى كيلو متر واحد، فلو نظرت عن اليمين تجد تلالا رملية مرتفعة وضعتها قوات الأمن (سواتر ترابية)، لغلق الشارع ومنع عبور السيارات، لتجنب استهداف القسم، ولو نظرت إلى اليسار تجد تلالا رملية مرتفعة، جرى تشوينها لحماية كمين «الضرائب»، التابع للقوات الملسحة من هجمات الإرهابيين.
كان المشهد فى الشارع الرئيسى مرعباً للغاية، منازل تهدمت من آثار معركة الأربعاء الدامى، هنا منزل عبارة عن طابقين، تمت تسويته بالأرض، وتذكر الأهالى أن مسلحين اعتلوه وأطلقوا النيران على قوات الأمن، فقصفته طائرات F16 وسوته بالأرض، ودُمرت جميع المحال الموجودة به.. محال محترقة لا حصر لها وخسائر جسيمة.
ويحكى مرافقونا من أبناء الشيخ زويد إن غالبية المسلحين انتشروا فى هذا الشارع، وبدأوا فى زرع العبوات الناسفة بجوار أعمدة الإنارة، ومدوا أسلاك التفجير لمسافات طويلة داخل الشوارع، انتظارا لقدوم قوات الإمداد لتفجيرها، وجلس المسلحون على الموتوسيكلات فى الشوارع الجانية انتظارا للتفجير، وكسروا عددا من محال البقالة وسرقوا منها المياه والسجائر وتناولوا المياه وأشعلوا سجائرهم فى نهار رمضان- حسب رواية الأهالى- ما يطرح أسئلة عديدة حول هوية وعقيدة هؤلاء المسلحين المفطرين المدخنين، إلا أن قوات الجيش دافعت عن تمركزاتها ببسالة ولم تتحرك لمهاجمة المسلحين أثناء انتشارهم، بعد أن فطنت القوات لفخ العبوات الناسفة المزروعة بعد أن أبلغهم الأهالى بما شاهدوه.
فى موقف صغير للسيارات لا تتعدى عدد السيارات به 10 سيارات، يقول الأهالى إنه الموقف الرئيسى توجهنا إلى حى أبوزرعى، هذا الحى الذى شهد دمارا كبيرا إثر المواجهات المسلحة المتكررة، فهذا الحى هو جنوب الشيخ زويد، ويعد مدخل التكفيريين إلى المدينة.. بيوت أصابتها القذائف بعضها عشوائى وكثيرها كانت أهدافاً إرهابية، توجهنا شرقاً إلى «أبو طويلة» حيث السوق الرئيسية والذى دُمر بكامله جميع المحال به منهارة، نحن فى مدينة أشبه ببقعة أصابها زلزال مدمر.. على جانب آخر من السوق كانت هناك سيارة تابعة لشركة الكهرباء تجمع حولها الأهالى فى محاولة إصلاح كابلات الكهرباء المدمرة، لا أحد فى الشوارع إلا قليل من البشر.
كانت رحلتنا الأخيرة إلى مبنى شاهق، أقصى جنوب المدينة، صعدنا أعلاه لنلقى نظرة وداع لهذه المدينة المنكوبة، أصبحنا على بعد أمتار من كمين «أبورفاعى».. هنا موقع أول انفجار هز المدينة يوم الأربعاء الدامى، الكمين منصوب فى منزل أحد الإرهابيين، الذين قتلتهم قوات الجيش وبدلا من هدمه قوات الجيش استغلته ونصبت عليه كميناً سمى أبورفاعى نسبة للحى الذى يوجد به، الكمين مدمر تماما والمبنى الذى كان به سقط أرضاً، وفى جانب آخر من المكان كان هناك أفراد كمين يتولون نصب معدات عسكرية لإعداد كمين مجاور للمركز الطبى فى حى أبورفاعى كان صوت الدبابات والآليات العسكرية، الصوت الوحيد المسموع فى المكان، وكان مشهد الشيخ زويد من أعلى المبنى يشبه امرأة تلملم جراحها إثر اغتصاب مسلحين لها فى يوم دامٍ.