تهريج.
هكذا وصف أحدهم مؤتمر «مصر تكافح الإرهاب» الذي دعت إليه الأحزاب المصرية قبل أيام، ونشر مقالًا تحت هذا العنوان في صحيفة تقدم نفسها باعتبارها منبرًا للعقلانية وتحمل على عاتقها تنقية التراث من الشوائب وتجديد الخطاب الديني.
لهذا، لفت نظري العنوان: «موتمر الأحزاب ضد الإرهاب.. تهريج»!!
قرأت المقال، فوجدته هو التهريج بعينه، من حيث طريقة التناول، واللغة المستخدمة في التعبير، والتي وصلت إلى إدانة فكرة تقديم دراسات وأبحاث عن الإرهاب، لأن هذا يليق بمركز شباب الحبانية، ولا يليق بالأحزاب، ويضيف ساخراً ومهرجاً: أيون بحث وعمرة، فإذا كان هذا جهد الأحزاب.. أُمال مركز شباب الحبانية هيواجه الإرهاب بإيه؟؟
لقد أغفل الكاتب الكلمات التي نادت بمشروع حزبي مشترك للعدالة الاجتماعية باعتبارها مدخلًا مهمًا لإصلاح البيئة التي ينبت فيها الإرهاب، كما أغفل الدعوة لتأسيس منظمة شعبية على المستويين الإقليمي والدولي، بحيث تساهم الشعوب نفسها في مقاومة الإرهاب بطرق حياتية غير تقليدية، بعيدًا عن الحلول الأمنية، وعن المقارعات الانتخابية والسلطوية، والأهم من ذلك كله أنه أغفل مغزى التوحد والالتقاء في مؤتمر دفعه هو نفسه للحضور والمشاركة حتى ولو بالنقد.
إن النقد مهمة جليلة، تساعد على دعم الأفكار الصحيحة، وتساعد على علاج أوجه القصور أو الضعف، أما التكسير والتضليل و«التهريج» فهو عادة ما ينبع من طريقة رافضة للفعل، تتستر وراء ملاحظات شكلية يمكن اصطيادها في أي حدث، مهما كانت دقة تنظيمه.
لقد سمعت في قاعة المؤتمر ملاحظات انتقادية لمشاركة «حزب النور» في المؤتمر، وعندما سألني كاتب كبير مشهود له بمواجهة الإرهاب: هما السلفيين اللي هيواجهوا الإرهاب؟.. قلت: ولم لا؟ ألم يفعلها قطاع كبير من تنظيم الجهاد بعد المراجعات؟، لا تغلقوا الطريق أمام السياسة وتتعاملوا لإقصاء الأطراف التي تلتقي في الرؤية الوطنية بصرف النظر عن الخلافات السياسية والفكرية الأخرى، فالإرهاب جريمة إنسانية وليس فكرة سياسية، تفهم الكاتب وجهة نظري، وقال: فعلًا، السياسة قد تُعلّم الناس الكثير وتُنقّي أفكارهم من الأساليب الضارة.
لكن المثير للدهشة فعلًا، أنني وجدت «كاتب التهريج» يردد نفس الكلام، مع أنه قضى سنوات طويلة من عمره تحت راية الإسلام السياسي، وها هو يواجه الآن ويتهم التيار الذي جاء منه بالإرهاب، فلماذا تستبعد ذلك على حزب النور أو سواه من الأحزاب والتجمعات.
المثير أيضًا أن الكاتب (وهو إخواني منشق) يكتب بطريقة: «معركتنا» و«يسندنا»، و«أنتم»، و«نحن»، فهو يقول: إن هذه الأحزاب لا يمكن أن تكون «سندنا» في مواجهة الإرهاب، وهذه النخبة لا تملك رؤية ولا هدفًا، بينما الإرهاب يملكون، وأن هذه الأحزاب تتخيل أن الإرهاب سينتهي بالزعيق في المؤتمرات.
حضرت هذا المؤتمر الذي تولى تنظيمه «حزب المحافظين» بمشاركة واسعة من مختلف الأحزاب، غاب عنها حزبا «الوفد» و«المصريين الأحرار»، بينما حضر «حزب النور»، وهو الأمر الذي أثار عددًا من التعليقات في القاعة، وأشار إليه كاتب مقال التهريج الذي اعتبر (بكل بساطة) أن حزب النور أساسًا هو الإرهاب، حيث كتب بالنص: تعالوا هنا.. مؤتمر يناقش الإرهاب ويرفضه، وهناك كلمة لحزب النور، ياناس ياهو.. اتقوا الله فينا وفي عقولنا.. هو تاجر المخدرات هو من سيقاوم التعاطي؟! (وعلامة التعجب من عندي).
وبعد وصلة تحليل خلطت بين المد السلفي في الشارع المصري ومطالب تطبيق الشريعة، كما خلطت بين «الحزب السياسي» والظهير الاجتماعي القريب من أيديولوجية الحزب، اعتبر الكاتب أن الإخوان «هيفطسوا علينا» من الضحك إذا شاهدوا ما يحدث في مثل هذه المؤتمرات، وفي نهاية مقاله، قال كاتب التهريج للأحزاب: نحن في حرب، إن لم تكونوا على قدر المسؤولية، وكذلك التعاون مع أجهزة الدولة والمساندة للشعب والجيش.. فعفوًا.. نقّطونا بسكاتكم.
يبقى توضيح وسؤال لكاتب التهريج، أما التوضيح، فهو أن المؤتمر كان مجرد مدخل لإقرار خطة عمل منظم وطويل المدى، تم الإعلان عنها كعناوين، نظرًا لظروف الوقت الضيق في رمضان بين الإفطار والسحور، ونظرًا لاقتراب إجازات العيد، وهذا التقدير لا يتعلق بما قاله كاتب التهريج: «داخلين على عيد وكحك وبسكويت وكلام من ده» (وهذه عينة من خطابه)، لكن تقدير الوقت ومجال العمل جزء من نجاح أي خطة، كما أن المسابقة التي تحدث عنها ليست مدعاة للتندر من شخص يفترض أنه باحث، وهي تقليد سنوي في موضوعات متغيرة، وقد تم اختيار موضوع الإرهاب ليكون محور الأبحاث والمسابقات في هذا العام، كما أن جوائز العمرة تعطي انطباعًا باحترام هذه الأحزاب لفكرة العبادات والدين السمح، وقد فاز بهذه الجوائز من قبل أقباط مصريون، شاركوا في موضوعات ذات علاقة بالقرآن والتراث الإسلامي، والجائزة تتيح لهم الحصول على المقابل المالي في هذه الحالة.
أما السؤال فهو: إذا لم تنادِ الأحزاب بالاهتمام بالثقافة والتعليم والعدالة الاجتماعية، وتبادر بالحشد في مؤتمر، لتقول إنها ضد الإرهاب (والإعلان في حد ذاته مهم جدًا)، فماذا تقصد بقولك: نحن في حرب، وإذا لم تكن الأحزاب كذا وكذا..
هل تريد من الأحزاب أن تحمل السلاح، أو تقوم بمهام الأجهزة الأمنية؟
أظن أن هذا سيكون فعلًا هو «التهريج» بعينه.
كل عام وأنتم بخير
[email protected]