ممتلئة القوام، مستديرة الوجه، تشيع فى ملامحها الطمأنينة والثقة. لا أحد يدرى وظيفتها بالضبط فى المستشفى، ولكنها على الأرجح كانت عاملة ثم اكتسبت بمرور السنين مكانة تسمح لها بالجلوس بلا عمل، أو بإعداد الشاى والقهوة للأطباء بأجر. كنت أحبها وأداعبها وأسألها عن سر تسميتها باسم «أم حمادة» برغم أنها لم تنجب إلا البنات. وكانت تجيب فى غموض: «كل اللى يجيبه ربنا كويس. الحمد لله».
ومرت الأيام وعرفنا أن أم حمادة تزوّج بنتيها فى نفس الوقت. همست لى بذلك سهير الممرضة السمراء التى يجمعنا ود عمر بأكمله. قالت: «لازم تساعدها بحاجة. أنت عارف إن جوزها مش بيصرف على البيت». وتظاهرت بالجهل مع أننى أعرف الحكاية كاملة، قلت فى دهشة مصطنعة: «بجد؟». فأرسلت ضحكة لعوبا طويلة وكأنها تقول «بلاش استعباط».
«أم حمادة» فى الأصل بيضاء البشرة. وهذا يعنى- بالنسبة إليها على الأقل- أنها حسناء. حتى لو كانت امرأة خمسينية. هى على كل حال من النوع الذى لا تبدو عليه آثار السنين. وكأنها تصل إلى سن معينة ثم لا تتجاوزها بعد ذلك. زوجها، واسمه مبروك، سأحاول أن أصفه لكم. نحيف ولكن صلب، وهو من نوع الرجال الذى يحلق شاربه من أعلى ليبدو وغداً بمعنى الكلمة. ويروق له - لسبب أجهله- أن يربط رأسه بمنديل. وواضح تماما أنه يتعاطى الكيف. وهو ثابت الأعصاب من الطراز الذى يعرف كيف يتعامل مع المرأة. بدليل أنه يهجر أم حمادة بالشهور. فإذا عاد صارت أم حمادة لامعة وشبعانة ومبتلة. هذا بالرغم من أنه فى الغالب يضربها ويأخذ مالها ثم يصالحها بطريقته.
نعود لحكايتنا، عرفنا أن أم حمادة تزوّج ابنتيها فى الوقت نفسه. وقد ساعدها كل واحد منا قدر استطاعته. إلا أن أم حمادة بدت نشيطة ومنشغلة، وبالفعل تم الزواج على خير كما عرفنا من التفاف الحكيمات حول أم حمادة ذات صباح.
الجزء السيئ فى القصة حدث عندما عرفنا أن أم حمادة فى الحجز لعدم تسديدها الكمبيالات. وهكذا اكتشفنا أن الحمقاء ابتاعت جهازى ابنتيها بالتوقيع على وصولات أمانة على وعد أن تسدده بالتقسيط. وحين سألت عن القسط الشهرى وجدته باهظا ويبلغ عدة آلاف. وتساءلت: «هل هى مجنونة لتتعهد بسداد هذه الكمبيالات ومن أين؟ من الشاى والقهوة!».
وذهبنا لزيارتها فى الحجز. واستقبلتنا بشبه فخر وكأنها تتباهى بنا بين السجينات. وشرعت أتأملها فى فضول وقد بدأت أشك فى قواها العقلية! لماذا تبدو غير مكترثة وكأن الأمر يخص غيرها! ومن أين لها هذا الثبات الانفعالى؟ (أم هو بلادة؟). وحين أقارن نفسى بها أجدنى يملؤنى الهم من أبسط مجازفة! وأشعر بالهلع عند أى خسارة! ولا أطمئن مطلقا للغد برغم أن أحوالنا لا تقارن. وعند أهون ابتلاء فإننى أرغب أن أموت!
ولكن العشرة لا تهون إلا على ابن الحرام. هكذا تعاهدنا أن نجمع لها المال ولو كان باهظا. ورحت أضرب كفا على كف حين اطّلعت على تفاصيل الفواتير. (الولّية) وقّعت على عشرين إيصال أمانة لتشترى من عشرين بائعا! والأصناف مستفزة: ديب فريزر، تلفزيون 32 بوصة، طقم صينى. وصرنا نضحك فى هستيريا ونحن نتبادل الفواتير ونتعجب منها. فى النهاية خرجت أم حمادة من الحجز بعد تسديد الدين. شكرتنا فى كبرياء، ثم عادت إلى جلستها المطمئنة مثل أى امرأة رائعة بيضاء!