x

وليد علاء الدين شجرة، وطن، دين وليد علاء الدين الثلاثاء 14-07-2015 02:24


1

أحد أحلامي المؤجلة أن أتفرغ لكتابة وتصوير أفلام تسجيلية. وكعادتي أستغل وقتَ فراغي في تحضير نفسي لتقاعدٍ أحلم به، إذا أراد الله لي أن أعيش حتى أدركه، أستعد له بالأساسيات اللازمة للبناء عليها وقتها؛ تعلمتُ العزف على العود وصرت جاهزًا لاستكمال الطريق بعد التقاعد، تعلمتُ أساسيات التصوير واقتنيت العديد من الكاميرات وتدربت عليها، تعلمت العمل على برامج تحرير الفيديو، أتقنت السباحة لتكون النشاط الذي يناسب رجلًا في فترة تقاعده... وغير ذلك من أمور، والتساهيل بعد ذلك على المولى عز وجل.
من ضمن الأفلام التي تدربت فيها على الكتابة والتصوير والمونتاج، فيلم قصير لم يكتمل أطلقت عليه اسم «الشجرة»، بنيته على فكرة تشغلني دائمًا وهي أن الأسماء لا تحمل عادة الدلالات نفسها عند البشر، إنما تختلف اختلافات قد تصل إلى حد التنافر باختلاف الثقافة وتعدد مكوناتها وروافدها.
والفكرة ببساطة هي تجهيز عدد من الأسئلة حول الشجرة، تمت صياغتها بطريقة مناسبة لتوجيهها لعدد من الأطفال في فئات عمرية مختلفة، الهدف منها نقل الصورة الذهنية عن ذلك الكائن الذي يحمل اسم شجرة في عقل كل واحد من الأطفال المشاركين. بالطبع كانت البداية مع ابنيّ: أحمد (8 سنوات وقتها)، ويوسف (5 سنوات) مع تجارب أخرى لأطفال الأقارب والمعارف.
إذا سألتَ البدوي عن الشجرة يمكنك أن تتوقع أن الصورة التي تجسدتْ في ذهنه وهو يجاوبك صورة نخلة، وإذا كان المسؤول من سكان الغابات الاستوائية مثلًا فلا شك في أن صورة لشجرة أخرى -ربما لا تعرفها- ارتسمت في مخيلته، لكن الغريب أن شجرة أحمد وتصوراته عنها اختلفت كثيرًا عن شجرة يوسف وتصوراته عنها، رغم أنهما أخوين كبرا تحت ظل بيت واحد في ظروف متماثلة وبيئة واحدة ومدرسة واحدة.
لم يكن الفرقُ بين شجرتيهما شبيهًا بفارق السنوات الثلاث بينهما، كان أبعد من ذلك؛ فرق اهتمامات! فرق إدراك! فرق معارف! أحمد يقرأ ويشاهد أفلامًا، بينما يوسف مهووس بأفلام الكارتون وله خيال أكثر طفولة! ربما نعم وربما لا، الحادثُ أن ثمة فرقًا في صورة كل منهما الذهنية عن الشجرة، فرق يجعل الشجرة كائنين مختلفين وليس كائنًا واحدًا متفق عليه.

من دون الدخول في تفاصيل كثيرة، فقد جاء التفاوت في تصور كل شخص لـ«شجرته» ليؤكد فكرتي عن أن استخدامنا للمفردة الواحدة ليس دليلًا كافيًا على أننا متفقين بشأن كافة التفاصيل المتعلقة بها، بل ربما نكتشف بعد قليل أننا نتحدث عن أشياء مختلفة كليًا وإن أطلقنا عليها الاسم نفسه.
2
إثر ما شهدته سيناء تحديدًا من اعتداءات إجرامية؛ نشرتُ هنا الأسبوع الفائت مقالًة بعنوان «رسائل إلى مصر» على هذا الرابط

دعوت فيها المصريين إلى الاصطفاف في صف الوطن ضد أعداءه، باعتبار أن ما حدث هو إعلان حرب على مصر، وأن وقت الحرب لا يسمحُ برفاهية الاختلاف على أمور يمكن تأجيلها، وبالتالي اعتبرتُ الوطنَ في هذه الأثناء جبهًة واحدة يجب أن ينضم إليها كلَّ المصريين (ملائكتهم وشياطينهم) مقابل جبهة واحدة فقط تضم (المعتدين على الأرض والعِرض ومستبيحي الدم).
اجتهدتُ في المقال أن أكون واضحًا في تحميل كل مكوِّن من مكوِّنات تلك الجبهة الوطنية بمسؤولياته تجاه ما يحدث، بدايًة بالمواطنين العاديين الذين يجب أن ينحوا جانبًا انتماءاتهم الصغيرة لصالح الانتماء الأكبر وهو الوطن، وأن يستمعوا لصوت «ذلك الحب العظيم لمصر القابع دائمًا في ركن قصي من أركان روح كل مصري، مهما أتعَبَته وماطَلَته وأدارتْ له وجهها ونامت في أحضان الفاسدين»، مرورًا بالجيش، وصولًا إلى الحكومة والرئاسة التي قلت إنه ينبغي عليها أن لا تقع في الخطأ التاريخي المعنون بـ«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».. .، وغير ذلك مما يمكن الوقوفُ على تفاصيله بالرجوع إلى المقال.
كنت إلى حدِّ تلك اللحظة مؤمنًا بعمقٍ بأن الوطنَ مصطلحٌ غير قابل للتأويل، إلا أنني اكتشفت سريعًا من عدد من مداخلات القراء أنني وقعت في فخ «الشجرة»، وأن ثمة فروقًا جوهرية ما بين صورتنا عن الوطن وصورةِ آخرين عنه تهون أمامها فروق صورة الشجرة بين أحمد ويوسف.
3
الآن وليس غدًا عليك أن تتجاوز غضبك وأن تنحاز لوطنك فقط، لا شعار آخر غيره. مهما كان عمق الخلاف بينك وبين أخيك فلا تدع كلبًا يستغله ليقتل كلًّا منكما منفردًا.
بهذه العبارة اختتمت إحدى فقرات المقال، وأظنها كانت السبب في الرسالة التي وصلتني من مصري ليس بيننا سابق معرفة يقول لي، وقد صوبت بعض أخطائها اللغوية والإملائية:
«نعم يجب أن نصطف جميعًا لأجل الوطن، ولكن كيف أخي الكريم تطلب ذلك ممن اتهمتهم بأنهم انصاعوا لرغبة»كلب«؟ لا تتمترس خلف فكرتك وتسفه الآخر، وتقتنص لنفسك الوطنية وحب الوطن وتدعي الفهم وكونك تملك الحقيقة والوطنية دون غيرك، ثم تدعوني أن أضع يدي في يدك وإلا أصبحت خائنًا للوطن».
وأضاف: «ياسيدي الكريم لقد ضرب الله مثلًا الأخسرين أعمالًا ووصفهم بأنهم»الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا«، عندما تظن وإخواننا الكرام أن مثلي -وقد وصلتُ إلى أعلى درجة في القضاء فضلًا عن حصولي على درجة الدكتوراه في النظم السياسية-»مغيب بلا عقل أسير خلف كلب وأكره الوطن- تحياتى لكم جميعًا، اللهم اكشف الغمة واجمع برحمتك شمل الأمة واحفظ مصرنا الحبيبة من كل مكروه وسوء«.

لم أصف «بالكلب» سوى من يستغل الخلاف بين مصرييَن ليقتل كلا منهما منفردًا، فطلبت من قارئي الكريم إعادة القراءة بعد أن أوضحت له تحديدًا من وصفتهم بالكلاب ،ربما غفل عن ذلك، فاتهمني: «لا زلت تحتكر الوطن»، وشبهني ببشر يعرفهم منهم «بنت كوافيرة من اللى كانوا بيرقصوا قدام اللجان» استوقفَته وقالت له كلامًا كثيرًا يذكرُ منه: «انت محترم ونضيف وبنحبك كلنا بس ليه موش بتحب مصر دا وتنا»بالتاء«-تقصد وطننا- لازم تحب مصر» فما كان منه إلا أن ابتسم لها وقال: «حاضر».
الحقيقة تهتُ في المثال، ولكن لا بأس فالرجل يجتزئ ولا شك أنه يقرأ لي للمرة الأولي، ويظن أن الوطن عندي هو السيسي وأنني من الراقصين أمام لجان الانتخابات، فأعدت سؤالي عليه محاولًا استعادته إلى المقالة باعتبارها أرضية النقاش، قلت: أين صنفت نفسك في مقالي يا سعادة المستشار لكي تشعر بأنني اتهمتك؟ فكانت اجابته المثيرة: «مع الحق والوتن طبعا» متعمدًا كتابة الوطن بالتاء كما نطقتها له «البنت الكوافيرة»، وهو ما غضضت الطرف عنه بدافع المعرفة، وأعدت كتابة سؤالي: «لا فعلًا، كيف استنتجت من المقال أنك خارج تصنيفي»للوتنيين«، وما الذي تراه مني احتكارًا للوطنية؟»
فاستهل اجابته بهاءات كثيرة تدل على الضحك هههههههه، ثم كتب: «هل تعلم أن فرعون قال عن نبي الله موسي إنه يخاف على وطنه أن يظهر فيه الفساد، تفصيلات كثيرة، أكيد سنصل فيها إلى نقاط اتفاق، لكني سعيد بالتواصل معك»
جاوبته بكمية أكبر من الهاءات أعقبتُها باستنتاجي: «لا أظن، أنت اذن ممن يحتكرون الحقيقة باسم الدين» ثم أعدت سؤالي مرة أخيرة، فربما لم يُكمل الرجل المقالة واكتفى منها بالبوست المنشور على صفحة الفيسبوك: «ولكن.. هل قرأت نسخة المقالة الكاملة؟» فكتبَ: «أنت تتهمنى مرة أخرى مثل بلال».
سأعرف بعد ذلك أن بلال هو «رجل يبيع الأحزمة»، يشبه «البنت الكوافيرة» كان «يقف إلى جوارها ويرفع صورة للسيسي ومكتوب تحتها تحيا مصر»! ولأنني لم أكن أعرف مَنْ بلال فقد أجبته: «لا أعرف من بلال، ولكن أنت اتهمتني باحتكار الوطن في مقال لا أظن أن يفهمه هكذا إلا صاحب فكرة محددة عن الدين يظنها الحقيقة المطلقة، عمومًا اعتبره اجتهادًا وليس اتهامًا».
لم يُعر مداخلتي الأخيرة اهتمامًا، ونصحني بقراءة بعض المؤلفات، وحياني تحية المغادر، شكرته على التوجيه واقتراح المؤلفات، ولكنني استبقيته من دافع الفضول لمعرفة كيف يفكر الآخر وكان بيننا هذا الحوار:
- مقالي كان عن حادثة الشيخ زويد
- فاهم والله
- فهل تعتقد أن من حاولوا قتل الجيش المصري هناك أصحاب حق؟

- قلت لك نحن متفقين في أمور كثيرة، سؤالك يؤكد أنك لم تفهم قصدي، يا أخي الكريم الدم المصري كله حرااااام، حتى لو كان على غير دينك موش على غير فكرك.

- ما يحيرني هو أنك لم تفهم قصد المقال!! هؤلاء هم من وصفتهم بالكلب الذي يريد قتل المصريين فلماذا أغضبك وصف الكلب؟
- لأني لمحت في حديثك عقل، لكنك طردت من الحوار من يخالفونك، افتح الباب أخي الكريم
- طردتُ من يظنون أن بينهم وبين الوطن ثأرًا يُجيز لهم الوقوف إلى صف القتلة، طردتُ من يظن أن مفهومه عن الدين هو الحقيقة المطلقة
- هم لا يظنون هذا
- من لا يظن هذا، فليستثن نفسه.. ببساطة
- يفعلون ذلك لأنهم يرون الآخر مجرم مارق فاسد، ولا علاقة لحب الوطن بالأمر
- خطابي مفتوح، أما صاحب البطحة فليتحسس رأسه، لذلك طلبت منك قراءة المقال الكامل
- فهمتَ ما أقصد؟
- فرق بين الوطن وأحوال الوطن، من لم يستطع معرفة الفرق سقط من الوطن
- في رعاية الله وحفظه وتحيا مصرنا الحبيبة، بس من غير صورة السيسي رغم أني عارف أن بلال ممكن يزعل لأنه موش فاهم، فكما تقول يا صديقي «فرق بين الوطن وأحوال الوطن» و«من لم يستطع معرفة الفرق سقط من الوطن»

4
لا علاقة لي بانتماء هذا المصري الديني، وإن كنتُ لا أرى أن «الإخوان المسلمين» دين، ولذلك في مقالتي حين خاطبتُ المصريين -ممن يرفعون شعار رابعة كإشارة معارضة- قلت: «إلى كل ربعاوي وربعاوية، ليس إخواني أو إخوانية، ولا إرهابي أو إرهابية».
وبذلك لم أستثن من المصريين سوى من يرى أن الدين -وفقًا لصورته عنه- أعز من الوطن، وأن دينه يسمح له بأت يؤذي الوطن لتخليص ثأره من أشخاص- مهما علا شأنهم في سلم إدارة الوطن، وهو ما كان يحدث في سيناء عندما كتبت المقالة.
عندما نتحدث عن الوطن- لا أحوال الوطن وحكامه- فإننا لا نستثني أحدًا ولا نحتكر الوطنية، إنما نحدد الإطار المنطقي والمعايير العقلية التي لا يجوز لمن فقدها أن يظل في جبهة الوطن.

كيف يظل في جبهة الوطن من يعترف بأنه يفجر محطات الكهرباء كنوع من عقاب المصريين على اختيارهم المختلف؟
كيف نطمئن أن يكون في جبهة الوطن من يرفع يده بالدعاء أن تتعرض مصر لما تعرضت له العراق وسوريا وليبيا انتقامًا من المصريين وثأرًا ممن يظنون أن لهم في رقبته ثأرا؟
كيف نرضى أن يكون في جبهة الوطن من يرى -باسم فهمه للدين- أن حرق الوطن نصرة للدين وإعلاء لكلمة الله؟ لا نختزل الوطن في شخص، لأننا نختلف مع الشخص من أجل الوطن، وأبدًا لا نختلف مع الوطن من أجل شخص. ولا نختزل الدين في جماعة، لأننا نختلف مع أي جماعة من أجل الدين، وأبدًا لا نختلف مع الدين من أجل جماعة.

5
إلى متى ستظل لعبة شجرة، وطن، دين!

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية