إن التعصب الأعمى والنظرة السطحية الضيقة وسوء الطوية، كل ذلك يقود إلى غيبوبة تفقد صاحبها العقل السوى والفهم الصحيح، فلا يستطيع إدراك الحقائق الواضحة أو حتى البدهيات البسيطة التى يدركها الإنسان العادى.. لا شك أن ثورة ٢٥ يناير أغضبت وأوجعت قطاعا من المصريين، كان يرى فى نظام حكم مبارك مصلحة له، متجاهلا أن مبارك ترك إرثا خربا بكل المقاييس؛ فى التعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والإسكان.. إلخ. هذا القطاع تجاهل تماما تزوير إرادة الشعب على مدى ٣٠ عاما، وتغافل بالكلية عن الزواج الكاثوليكى بين الثروة والسلطة، والمجلس النيابى، الأمر الذى أدى إلى ضياع الطبقة الوسطى التى تمثل مرتكز الدولة وعماد المجتمع.. كما أنه تناسى ما قام به نظام مبارك من تخريب العقل المصرى، وتهميش الدور المحورى لمصر على المستويين الإقليمى والدولى.. والخلاصة، أن القطاع المذكور وقف - ولا يزال - موقف العداء من ثورة ٢٥ يناير ويعزيها إلى مؤامرة رتبت وخططت لها الإدارة الأمريكية عن طريق مجموعة من الشباب المنتمين لمرجعيات فكرية وسياسية مختلفة.. حسنا، فلترتب وتخطط الإدارة الأمريكية ليس مع شباب مصرى، وإنما مع شياطين وأبالسة، فهل كان ذلك بقادر على إخراج الملايين من الشعب المصرى، لتطالب بحزم وحسم بإسقاط نظام حكم مبارك، وقد تبلورت هتافاتها التى بلغت عنان السماء فى شعار «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية»؟.. هل خرجت هذه الملايين وهى مغيبة، أو مخدرة، أو مخدوعة، أو مضحوك عليها، أم أنها خرجت تعبيرا عن انفجار شحنات الغضب التى امتلأت بها صدورها نتيجة الاستبداد والفساد الذى مارسه نظام حكم مبارك عبر عقود طويلة؟
الإخوان وأنصارهم وقعوا- ولا يزالون- فى نفس الخطا عندما نسوا- أو تناسوا- فشلهم وسوء إدارتهم للبلاد.. غفلوا- أو تغافلوا- عن الإعلان الدستورى الذى أصدروه فى ٢١ نوفمبر ٢٠١٢، لكى يجعل من مرسى إلها- والعياذ بالله- لا يسأل عما يفعل.. جهلوا- أو تجاهلوا- ما أحدثوه
فى المجتمع من انقسام وتشرذم واحتراب أهلى.. لقد أطاحت ثورة ٣٠ يوليو، ليس بأحلامهم فحسب، وإنما بصوابهم وعقولهم.. كما أنها عصفت بأحلام الإدارة الأمريكية، والكيان الصهيونى، والاتحاد الأوروبى، وتركيا، وقطر.. لذا، عزوا هذه الثورة إلى مؤامرة رتبت وخططت لها قيادات القوات المسلحة المصرية عن طريق مجموعة من الشباب الذين قادوا حركة «تمرد»!!. فهل كانت هذه القيادات قادرة على استنفار الملايين من الشعب المصرى (حوالى ٣٣ مليونا) للخروج إلى الميادين العامة فى كافة أرجاء مصر، لتطالب بعزم وإصرار بسقوط حكم المرشد؟! أم أن هذه الملايين كانت مقتنعة تماما بما تفعل، وأنها خرجت بإرادتها الحرة؟!.. السؤال نفسه يتكرر، هل خرجت هذه الملايين مغررا بها مضحوكا عليها هذه المرة أيضا؟ إن الأمر مضحك حقاً، ويبدو - ونحن لا ندرى - أن الملايين من شعب مصر من الغفلة والبلاهة والعته، بحيث أمكن استدراجها بكلمة أو خطة قام بها مجموعة من الشباب الماكرين والدهاة(!)..
والواقع أنه من الممكن أن نخدع واحدا أو اثنين أو عشرة أو حتى ألفا، لكننا بالقطع لا يمكن أن نخدع شعبا.. وإذا خدعناه يوما أو يومين أو حتى شهرا، فلن نستطيع خداعه عاما كاملا..
وإن تعجب فعجب قولهم إن قيادات القوات المسلحة قد انقلبت على «الشرعية»، ونقول لهم فلماذا حاولت هذه القيادات القيام بالوساطة بين الإخوان ومعارضيهم؟ هل نسينا محاولة الفريق أول السيسى (وزير الدفاع آنذاك) واللواء أحمد جمال الدين وزير الداخلية (فى ذلك الوقت) وهما يعملان على إيجاد صيغة تقارب بين مرسى والمعارضة، وكيف أن الرجل وافق، وبناء عليه تم توجيه الدعوة إلى الفرقاء، وقبل الاجتماع بساعة، إذا بمرسى يعتذر عن الحضور(!)، والسبب أن الرجل جاءته رسالة من مكتب الإرشاد، أو بالأحرى من الشخصيتين النافذتين داخل المكتب بالرفض، وكان الموقف محرجا للغاية لكلا الرجلين، السيسى وجمال الدين؟ وهل نسينا أيضا كيف أن السيسى- بدافع من الحرص والخوف على الوطن- وجه إنذارا إلى الجميع، إخوانا ومعارضة، بضرورة العمل على إطفاء النيران المشتعلة وأن مصر على شفا حرب أهلية، وأعطاهم مهلة أسبوعين، ثم ٤٨ ساعة، لكن الإخوان وأنصارهم صموا آذانهم وأعموا أبصارهم؟ فهل هذا يتفق مع من يرتب ويخطط لانقلاب؟
لقد استجابت القوات المسلحة للملايين التى خرجت فى ثورة ٣٠ يونيو - مطالبة برحيل الإخوان عن الحكم- وانحازت لشرعية الثورة، وكان لابد من الإطاحة بمحمد مرسى والإخوان الذين أرادوا إغراق مصر فى بحار من الدم.. لقد رفضوا إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وأصروا على البقاء فى سدة الحكم ولو على أطلال مصر.. وكان اعتصاما رابعة والنهضة بؤرتى قيح وصديد فى جسد الوطن، حيث تجمع فيهما كل فرقاء العنف، والاغتيال والإرهاب.. وفيهما انعقد العزم على أن تنهار الدولة، حال عدم إعادة الإخوان إلى سدة الحكم مرة أخرى.. وكانت «غزوات» الإخوان وأنصارهم إلى دار الحرس الجمهورى، والمنصة، ومسجد الفتح، وبين السرايات، والصدام الدامى مع رجال القوات المسلحة والشرطة.. لقد حاول الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، ورئيس الوزراء الدكتور الببلاوى إعطاء الفرصة كاملة للمعتصمين لمغادرة الاعتصامين آمنين، مع ضمان وصولهم إلى بيوتهم سالمين، لكن دون جدوى.. واستمرت المحاولات لمدة ٤٨ يوما كاملة، والمعتصمون يتمترسون فى المكان لا يريدون مغادرته.. عاثوا فيه فسادا، ومن على منصته قذفوا الجميع بحمم من التكفير والتهديد والوعيد.. وكان لابد من فض الاعتصامين، لكن المعتصمين كانوا عازمين على وقوع كربلائية تعفيهم من المساءلة أمام شبابهم وأمام تنظيمات الإخوان فى الأقطار المختلفة.. وانطلق بعدها مسلسل العنف والحرق والتخريب والتدمير والإرهاب والدم، بدعم من الإدارة الأمريكية وذيولها.. أقول مجددا: إنه ليس التعصب الأعمى والنظرة السطحية الضيقة وسوء الطوية فقط، لكنه تعشق الدم والخسة والغدر.. والخيانة أيضا..