x

أيمن الجندي مطاردة غرامية أيمن الجندي الإثنين 22-06-2015 22:59


فى ركن من الشارع المواجه للحديقة، وتحت مقعد حجرى يجلس عليه رجل مستغرق فى عالمه الداخلى، كان يقبع منديل ورقى مكرمش. وعلى مسافة منه، لا هى بالقريبة ولا هى بالبعيدة، كان يوجد كيس (شيبسى) فارغ أحمر ملون! منفوخ من أحد جوانبه. ولم يكن أحد ليعير هذه المخلفات اهتماما غير ذلك الرجل الجالس وحده، تتصارع داخله أفكاره الداخلية.

وحيد بكل ما فى هذه الكلمة من معان. يجلس وحده. يأكل وحده. ويتنزه وحده. هو وأفكاره. طوفان من الأفكار التى تملأ رأسه. لا يدرى إن كانت أفكاره هذيانا أم حقيقة. يغمض عينيه. يتأمل. يخاطب الجمادات ويستقرئ القوانين الغامضة. ينفذ إلى لب الحقيقة. صميم الكون لم يعد يخاطبه بالإشارات المبهمة كما كان يحدث من قبل! لقد صار صديقا للغموض وأليفا للأسرار الكونية. صميم الكون يفتح ذراعيه ويضمه. يسمح له بالدخول. يمرق بسرعة جنونية، يخترق الحراسات الدفاعية ونقط الأمان الحصينة. يشف حتى يرى الأكوان العلوية. يصغى للأسرار الغامضة ويشاهد الكيانات القديمة.

خذ عندك مثلا الذى حدث الآن أثناء جلوسه على مقعد حجرى، وتلك النسمة من الريح التى هبت فجأة. فأزاحت المنديل الورقى قليلا.

اعتدل فى مجلسه ورمق المنديل الورقى ابتسامة. ثم مد بصره إلى كيس الشيبسى الملون المنتظر فى شبه خجل. صميم الكون أخبره بالحكاية. شاهد منشأ المنديل الورقى. الشجرة الشامخة فى غابات بولونيا. شاهد السماء الصافية الزرقاء وندف الثلج تتجمع فوق غصونها. شاهد الحطاب وهو يقطع جذعها. أصغى إلى اللحاء وهو يتألم. سمع العصارة الخضراء وهى تستغيث. سمع طيور اللقلق وهى تسب وتلعن بعد أن اغتالوا أعشاشها. شاهد الجذع وهو يميل ويسقط. شاهده وهو يُحمل مع آلاف الجذوع الأخرى على السفينة. أصغى إلى هدير الموج وهو يلطم جدرانها. وفى المصنع شاهد تحولات الخشب إلى عصيدة بنية، ومن المخلفات التى لا تصلح لصنع الورق الفاخر تم تحويلها إلى المناديل الورقية. سافرت علبة المناديل من بلد لبلد حتى وقعت فى يد عاشق كان ينتظر بزوغ حبيبته من الشرفة. كان يمسك المنديل الورقى فى يده حينما أشرقت. أفلتت الورقة منه. بيضاء مجعدة تحمل رائحة العشق العذرى. حملتها الرياح إلى المقعد الحجرى حيث يجلس. وهناك أبصرت لأول مرة كيس الشيبسى الفارغ الأحمر. وقع المنديل الورقى فى غرام الكيس الأحمر.. تمنى أن يلحق بها. أراد أن يتحرك لكن إرادته لم تسعفه. رفع المنديل العاشق إلى السماء الشكاية.

نظر إلى كيس الشيبسى الفارغ وابتسم. لماذا هبت الرياح فى هذه اللحظة؟ لا شىء فى هذا الكون يحدث صدفة. علماء الطقس سوف يفسرون الأمر بتخلخل طبقات الهواء فى الأفق الأعلى حتى وصل إلى سطح الأرض مسببا تلك الهبة من الرياح. لكن هذا التفسير لا يقنعه. الرياح هبت لأنها تبارك الغرام الوليد ولكونها أصغت للشكاية. تحرك المنديل الورقى حتى لحق بكيس الشيبسى الملون. رمقها فى وله. تملكها الخجل وازدادت احمرارا. انتفخ الكيس الملون عشقا وطار فى الهواء قليلا. هبت الريح أكثر فحملت المنديل الورقى حتى لحق بها. تعارفا. تحابا. أخبرها بمنشئه الخشبى. حكى لها عن غابات بولونيا. صمتت الموجودات كلها من حولهما. سمعت بوضوح غناء طيور اللقلق وهى تنشد للشروق الوردى. وهبت رياح باردة تشبه رياح بلاده، حملتهما الريح معا، المنديل وكيس الشيبسى، فوق أغنية وقصيدة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية