قبل ما نبدى القول، نوحد المعبود، حبل الكلام موصول، فى سيرة فتى أبنود، والسيرة مش فردية عن بطل واحد، القصة جماعية والبطل شاهد.
فى تقديمه لتغريبة بنى هلال قال الأبنودى: السيرة الهلالية واحدة من أعظم ملاحم الشعوب العربية على مدى 850 سنة، وأى ملحمة تبدأ دائما بميلاد البطل، وبطل ملحمة بنى هلال كما نعلم جميعا هو فارس العرب الأسود الشجاع الشهير هو أبوزيد الهلالى سلامة بن رزق بن نايل بن جعفر بن جرامون، وكان هناك مشكلة كبيرة فى مولده كانت السبب فى وجود الملحمة، ولكى نتعرف على قصة أبوزيد لابد أن نبدأ بالتعرف على أجداد أبوزيد.
لأن السيرة بالسيرة تقتدى، على نفس النهج والصعيد، سنتعرف على بطل ملحمتنا ونهتدى، برحلة فى التاريخ البعيد، وكلنا كما نعلم جميعا هو شاعر العامية الأسود الشهير عبدالرحمن بن محمود بن عبدالوهاب بن حسن بن عطية بن عبدالفتاح بن عمران، ونبدأ الرحلة بالتعرف على قصة جده لأمه «قنديل الأكبر».
فى فضاء الكلاحين تحت شجرة جميز ضخمة سمع الناس صوت قنديل وهو ينشد على طريقة رزق بن نايل جد الهلالى:
«جور الليالى حير الإنسان/ آمنت لك يا دهر ورجعت خنتنى/ ولا كان حسابى أن الزمن خوان/ بتخونى ليه يا دهر تكسرنى فى العضا (العظام)/ خليت دموعى مزقوا الأجفان/ ألا يا عباد الله يا ميلة الزمن/ تاريها الغرورة طبعها خوان/ كنا برفعة قد خفضنا زماننا/ صبحنا أذلة والعزيز اتهان/ ياما ضحكنا وكان البكا عند غيرنا/ واليوم بنبكى وخصمنا فرحان».
كان «قنديل الأكبر» متوليا على كل زمام الطين، من البراهمة ونجع أبويوسف حتى الكلاحين، كان عطوفا على فقراء الأرض، على عكس من تولوا هذه الوظيفة فى طول البلاد والعرض، وذات يوم قرر الحاكم التركى انتزاع الأرض من أصحابها ولجأ رجاله إلى أخس الوسائل لسلبها، ضربوا وسحلوا وجلدوا وحرقوا البيوت وخطفوا الأطفال، وجاء الدور على «قنديل» زين الرجال، فرفض العرض، وأعلن عدم تسليم الأرض، هددوه بالانتقام ولم تشفع له وظيفته، ولا علو قدره ومكانته، ولما تمسك بالزمام، اقتادوه عنوة من داخل البيت، وربطوه إلى جذع جميزة وضربوه بالسياط السودانية المغموسة فى الزيت.
سبعة أيام بلياليها يتناوبون على بدنه بالضرب والقتال، حتى تمزق ظهره كغربال الغلال، لكنه لم يهن ولم تنل منه الآلام، وظل يسبهم ويلعن الحكام، بينما رجال القرى يقفون، على بعد يتأوهون، والنساء تولول وتندب، وقنديل يهدد ويرعب، وعندما يئس الحاكم من الرجل العنيد، أصدر أمرا بفك القيد، وترك له أرضه على نفس الحال، فكان الوحيد الذى احتفظ بحقه وصارت بطولته مضرب الأمثال.
بعد عامين من واقعة الجلد والتكدير، مات قنديل الكبرياء، بعد أن أنجب سبعة رجال وثلاث نساء، كان من نسلهم الحاج قنديل الأخير.
يقول الراوى:
كان الحاج قنديل رجلا مهيبا يحترمه الكبير والصغير، ويعملون لغضبته ألف حساب، كان حين يهل فى أول الدرب الطويل يتنحنح بصوته الأجش الشهير، فيسمعه الجميع، وتستتر النساء خلف الأبواب.
تزوج الحاج قنديل من ست أبوها، كانت امرأة نشيطة حادة الإحساس، تعمل كالرجال، وتملأ البيت الكبير بالحركة والحماس، كان البيت المهيب أربعة قراريط خططها بنفسه قنديل، قيراطان للبيت، وقيراطان لكرم النخيل.
فى موسم حصاد الشعير، حملت «ست أبوها» حملها الأول والأخير، امتلأت بالفرحة واستبشر الأهل بالخير، وفى فصل الشتاء قرب النهاية، شعرت «ست أبوها» بوجع الولاد فى الليل، فاستدعوا «شكشكة» الداية، وجاءت إلى الدنيا «فاطنة قنديل».. بيضاء، ذهبية الشعر، ذات عيون عسلية، فرح الرجل بالعطية، وأيقن أن زوجته ست الحسن والجمال، سوف تملأ فضاء البيت الواسع بالعيال.
مرت سنة من السعادة والهنا، كان قنديل يدلل طفلته ويمرجحها على ركبتيه ويمتدح شقارها وعيونها الملونة، وكانت أخته «سكسكة» تغتاظ من هذا الدلال وتصدر آهة توجع متعللة بوجع ظهرها، ثم تخرج من الباب، وكانت «ست أبوها» تنظر إليها بارتياب، وتردد فى سرها أو أمام الجارة يامنة: هذه المرأة العقرب اقتحمت عليّ الغرفة فشاهرتنى، جففت لبنى، وقطعت خلفى، منها لله!
مضت ثلاثة أعوام من الزمن السعيد، وحل الارتباك، بدأ قنديل يردد ويعيد: أبنود بلد للصحبة وليست للرزق، الرزق «هنا... ك».
يقولها وهو يشير بإصبعه إلى الشمال الشرقى، ويرسل عيونه ناحيتها كى يتبعوها فيعرفون أنه يقصد السويس، ويضيف قنديل عن تغريبة بنى أبنود: «بلاد مكتوب على جبين ناسها الهجرة، إن ظلت فى مكانها تموت، أهلها منجبون، يفرحون بالطفل إذا وصل، ولا يحزنون لو رحل، لا يملكون الوقت للحزن على مولود، يفجعهم رهن قيراط أرض، لأن القيراط الذى يذهب لا يعود، أما الطفل الذى يغيب مهما طال، فلا تكلف إعادته سوى فك تكة السروال».
هكذا قرر قنديل السفر إلى السويس، إلى بوابة رزقه، حيث يتاجر هناك فى الجناين والبساتين.
والحكى موصول.