لم يكن المستشار عدلى منصور، ولا يجب أن يكون، شخصا عابرا فى تاريخنا السياسى المعاصر، بل كان برهانا ناصعا على أن فى بلدنا «رجال دولة» مدفونين، من بين المدنيين الوطنيين الأكفاء، وأن بوسعهم أن يديروا دفة الأمور ببراعة، وأن يعطوا كرسى الرئاسة قيمة وقامة. فالرجل الذى منحه الله بسطة فى العلم والجسم، أظهر، لاسيما فى أيامه الأخيرة أن لديه قدرات هائلة، ولولا زهده فى الاستمرار فى منصبه الذى جلس فيه سنة واحدة لكانت الأمور قد جرت فى مسار مختلف.
الآن، ومع اقترابنا من سنة على تركه موقعه، لابد أن نتذكره بوصفه مثلا قابلا للتكرار، بل يجب أن نكرره فى قابل الأيام، إن أردنا لبلدنا خيرا، فمثله يعرف الفارق الهائل بين إدارة المجتمعات وتسيير التنظيمات، ويفهم كيف يوظف طاقات من حوله فى التخصصات كافة، ولا يزعم أبدا أنه «أبوالعريف» الذى يفهم فى كل شىء، ويلم بجميع مشكلاتنا، ويصل وحده لحلول كافية شافية لها، وهذه وصمة لا تصيب إلا من يجهل ويغتر، وينطبق عليه قول الخال عبدالرحمن الأبنودى: «ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم».
روج الإخوان وأتباعهم، وهم أشد الناس حرصا على الكذب، أن عدلى منصور قد أتى به الجيش كى يحكم، وهذا محض افتراء، فالقوى الثورية المدنية، حركات وأحزابا وقادة رأى ونشطاء سياسيين، اختاروه فى اجتماع شهير جرى فى أول يونيو 2012، وقد حضرته، اختاروا منصب «رئيس المحكمة الدستورية العليا» ويومها قيل: رئيس المحكمة الحالى سيترك منصبه فى 30 يونيو فمن سيأتى بعده؟ ولم يكن أحد منا يعرف الاسم، لكن سمى المنصب، فجاء المستشار عدلى، ورأينا كيف هو. وهذا الترويج لم يتم طيلة سنة حكم الرجل على يد الإخوان فحسب، بل كان هناك، حتى من ألد خصومهم، الذى من مصلحته أن يظهر عدلى منصور بمظهر التابع الأمين، وأنه يقوم فقط بـ«تسيير الأعمال»، ويبدو أنه فى «مهمة مؤقتة» و«تكليف محدد المدة من الشعب»، مع أن كثيرين من هذا الشعب لو وجدوا عنده أدنى رغبة فى الترشح للرئاسة لوقفوا خلفه بكل ما أوتوا من قوة، لأن سمته ومثله ومساره ومصيره هو ما يريدونه فى نهاية المطاف، وهذا كله الذى قام عليه جوهر ثورتى يناير ويونيو على حد سواء، لو أمعنا النظر فى مقاصدهما البعيدة.
لم أقابل المستشار عدلى منصور ولم تكن لى به أدنى علاقة ولم أنتظر منه ولا من غيره شيئا ولن يحدث، وانتقدته وقت أن كان رئيسا للجمهورية لاسيما فى بعض القوانين التى أصدرها، لكننى كنت مدركا وقتها أننى أنتقد رجل دولة مدنيا وقاضيا رفيع المستوى فى الوقت ذاته، وأقدر أنه تولى المسؤولية بشجاعة فى وقت عصيب، وأفهم أن بدايته كانت ناصعة لدرجة أسعدتنى، لأنها برهنت على ما كنت أقوله دوما أيام مبارك، حين كان حريصا على ضرب أى شخص أو مؤسسة مدنية تطرح نفسها بديلا له، من أن فى مصر كثيرين جدا يصلحون، وذلك أيضا فى معرض الرد على ما كانت تشيعه أجهزة مبارك من أنه «لا يوجد بديل عنه»، وما أشبه الليلة بالبارحة.
سعادة المستشار عدلى منصور، الرجل الهُمام فصيح اللسان وقوى الحجة والبيان والمصرى الوطنى الأصيل، أقول لك إن كثيرين عرفوا الآن أكثر من أنت؟ وكيف كنت؟ وأعتقد أن تجربتك الرئاسية القصيرة فى العمر كانت عميقة المعنى والمغزى، ولأن بضدها تتميز الأشياء، فإن البصمة التى تركتها ستساعد الناس على حسن الاختيار فى قابل الأيام، حتى تخرج مصرنا العظيمة إلى براح المستقبل.