x

يسري الفخراني مزاج (الست)! يسري الفخراني الخميس 18-06-2015 22:48


أم كلثوم كانت تغنى وأنا أكتب هذا المقال، فستان بسيط وصوت صاف ينساب كنهر بين ملايين من أشجار المانجو الحلوة، قبل أن تصل لنا، تغنى بسلطنة ومزاج فتنقل كاميرا التليفزيون الأبيض وأسود جمهورا منفعلا بكل كلمة وكل حرف وكل آهة تطلقها ثومة، نساء ورجال فى ثياب سهرة راقية، دخان سجائر ينقل حالة من الانسجام العميق، مرة أولى: أترك المقال وأسرح مع صوتها وصورتها وصورتهم، أتخيل نفسى مندسا بينهم فى صف يتوسط الحضور، بذلة وكرافتة وبجوارى سيدة ترتدى معطف فرير شتوى تفوح منها رائحة زهور جميلة، وأصفق وأقف وأجلس وأختبئ من نفسى فى هذه المتعة، هل هى متعة أم كلثوم، أم أنها متعة الزمن، متعة الفن أم متعة الروح والحياة والعشق والأمل وبساطة الأيام وهدوئها المريح، أعود فأكتب كلمتين: أحسد كل الجالسين بجوارى، رجلا وامرأة، فهذا مزاج أتمناه دون أن أملك قدرة أن أعود إليه، زمن محب للحياة، عنده آمال لا حدود لها.

أنا أحب أم كلثوم، هل لهذا السبب تسللت على أطراف عمرى لأجلس بين حضور حفلتها وزمنها، لكننى أيضا أحب عبدالحليم حافظ وسعاد حسنى وفاتن حمامة وبليغ حمدى ووردة وعمر الشريف وأحمد رمزى وإسماعيل ياسين والنابلسى والقصرى والدقن وستيفان روستى ومارى منيب، ما هذا الزمن الذى مضى بكل ما فيه، خرج ولم يعد، لا فنانوه تكرروا ولا جمهوره عاش، مرة ثانية: أترك المقال وأفكر فى مزاجنا الذى خفت، وآمالنا التى تلاشت، الحال لم يعد هو الحال على كل حال، من هو آخر صديق قال لى إنه عال ومبسوط وكويس وحاله فل ومزاجه صافى، حاولت أن أتذكر.. فلم أتذكر، مزاجنا احترق، منذ فترة بعيدة.. أصبح المزاج مثل الرزق: يوما بيوم، أو للدقة: لحظة بلحظة، على باب الله، نفرح على ما تفرج، نضحك على ما قسم، ننام ليلة سعيدة على قد لحافنا، زمن كان.. والأصل أن يكون زمنا معنا، نعيشه فهذه حياتنا ويجب أن نعيشها بمزاج رائق ودافئ، تغنى أم كلثوم.. وحنين إلى كل ما كان معها من زمن وصوت وكلمات وإبداع وبشر وكراسى وعيون تشبه البحر فى أغسطس، هادئ ومغر وشديد الوضوح، نفتقد هذا الإحساس بالحياة، بمتعة الحياة، الاستمتاع بالحياة، نعيش فى الغلاف الملون للكتاب دون أن ندخل إلى تفاصيل القصة بكل عذوبتها ومتعتها، فهذا سر عذابنا، نستهلك العمر فى قلق مبالغ فيه، ووجع فى القلب لا نعرف له سرا أو علاجا، استهلاك سريع ومفزع لكل ما نملك وما لا نملك، عصر الفيزا كارت، حيث الديون تطاردك أينما كنت، وقت الأقساط المريحة التى تسرق الراحة، زمن المقاهى المفتوحة أربعا وعشرين ساعة بدخانها وجلجلات الضحك المتواصل دون نكهة، زمن المولات بطوابقها العشرة التى تعصرك وتمتص متعتك وجيوبك، ما هى المتعة فى أن نترك الشمس والهواء ونقضى نهاية الأسبوع فى أنبوب زجاج مكيف، كل خطوة فيه عرض كاذب، وكل مساحة بضائع راكدة تطلب مشتريا، أين الشوارع بضيقها واتساعها وانخفاضها وارتفاعها وفاترينات وموائد وعربات خشب صغيرة تبيع مثلجات تشبه حواديت طفولتنا، أين أم كلثوم من كل هذا؟ لماذا ودعنا أم كلثوم ولم نطلب نسخا منها، روحها ورائحة إبداعها وزمنها لكى نستمتع بالحياة، إن الحياة التى تخلو من المشى على مهل بجوار سور طويل ممتد إلى ما لا نهاية ليست حياة، لكننا نعيشها بسرعة كأننا نريد أن نتخلص منها لا أن نبقى فيها أو نبقى عليها.

أم كلثوم، لا تغنى، لا تغنى فقط، إنها تمنحنا طاقة مذهلة على السعادة وعلى الحب وعلى الحياة، هناك شرط بسيط سوف أقوله لك: أن تكون على نفس موجة أم كلثوم وأنت تستمع لها، أم كلثوم لا تكتفى بالاستماع لصوتها، يجب أن تراقبها وهى تغنى، وهى تستخرج الكلمة من أعماقها والآهة تقتطفها من روحها، وهى تلوح بيدها ومنديلها، هناك طاقة تخفيها وتهديها، الموسيقى الجميلة فى حد ذاتها طاقة تغير مزاج من يستمع لها فى أدب، فالموسيقى هى أدب الإنصات وهى أدب مكتوب على نوتة موسيقية، وأداء المطرب جزء من الموسيقى، من العزف، آلة تضيف للأغنية معانى، وأم كلثوم منتهى الأدب، منتهى الذوق، منتهى الاحترام، منتهى المنتهى فى الإبداع يمنح شعورا بالتألق، وقد كانت، راقبها وهى تبدع، امرأة فارسة قوية بضعف، تمنح العبارات التى كتبها الشاعر رونقا، غطاء من الذهب الخالص، مخلصة أم كلثوم إذا غنت، إنها تحب نفسها وهى فى هذه الحالة الحلوة، وهذه بداية النجاح، أن تحب نفسك وأنت تفعل شيئا جميلا، تشعر أنك تقدم للآخرين عملا يسعدهم وتفتخر به.. الثقة وكانت أم كلثوم منتهى الثقة، فهى قد خرجت للناس بعد أن تدربت جيدا على ما سوف تقوله وما سوف تفعله وما سوف تكون عليه، وهى تطبق أهم نظرية وأسهلها وأكثرها ضمانا فى النجاح: التدريب والدراسة، تدرب أكثر واعرف أكثر لتصبح أكثر ثقة أمام الناس.

تسمع أم كلثوم فى الليل فى الروقان فى هدوء ما بعد عواصف يوم من العمر، وهى تشبه ظل شجرة، كلما مضيت فى الطريق إلى الأمام، احتجت إلى أن تختبئ فيها أو تختبئ معها أو تختبئ عندها، إنها لا تعيدك إلى الماضى، إنما إلى المستقبل، تتمنى لو أنك صنعت مستقبلا بهذه الروعة بهذه البساطة بهذا الجمال والأناقة، أفكر دائما لماذا لا نكون مثل من كانوا؟

تمهل، ولا تحرق بعض عمرك لتمنح العمر لآخرين لكى يعيشوا.

هذا المقال، مقدمة لنفهم أين ذهبنا.. منا؟.. محاولة أن نعرف وندرك ونبحث، فلا شىء يتحقق دون أن نجد أنفسنا أولا.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية