ركبت سيارتى متوجها إلى العمل، الهواء طيب فلا داعى لأن أفتح مكيف السيارة، سابقتنى ثم سبقتنى سيارة ميكروباص تفنن صاحبها فى إهلاك موتورها على نحو جعله يطلق من الخلف قنابل من ثانى أكسيد الكربون كافية لتدمير أقوى رئة لبشر، أغلقت نوافذ السيارة، الجو حار بل خانق، فتحت مكيف السيارة، وقفت أمامى بدم بارد سيارة ميكروباص أخرى لتستقبل راكبين جددا، احتجزت حارتين كاملتين من الشارع الذى من حينها صار ضيقا للغاية، لم يأبه السائق لبعض المنفعلين من ركاب السيارات المختلفة الذين أطلقوا كلاكساتهم المتكررة، فجأة أثناء التوقف داهمتنى سيدة متسولة كادت تدخل برأسها من نافذة السيارة تفننت فى أن تجعل مظهرها مرعبا، استعذت من الشيطان الرجيم ثم فتحت الراديو ليسلينى ويسرى عنى هموم الطريق،
أتانى عبر المذياع نفس صوت الشخص الذى مللت وزهقت وطفشت من رؤيته فى التليفزيون، إنه فى الأصل ليس مذيعا، لغته ركيكة، أسلوبه متدنّ، موهبته معدومة، مظهره منفر، موضوعاته تخلو من أى منطق أو مصداقية، أخطأ خطأ شنيعا فى حلقته التليفزيونية السابقة، فهل كافأوه بمنحه ساعات أخرى يحاصرنى بها عبر الراديو؟ سمعت صخبا كبيرا فى الخارج، فوجهت عينى فى اتجاه الصوت وفتحت نوافذ السيارة فإذا بمعركة حامية بين سائق تاكسى وقائد سيارة ملاكى يبدو أن سيارتيهما كانتا على وشك الاصطدام، يتبادلان أقذع السباب، قلت لنفسى: هل يعقل أن يكون هذا أول وربما آخر لقاء بين المتحاربين فكيف توفرت بينهما أسباب المعركة بهذا السخاء وكيف تورمت قلوبهم بكل هذا الحقد وهذا الحرص على تدمير الآخر؟ داهمتنى سيارة نقل خرج من شكمانها هذه المرة ما يشكل قنبلة كيميائية كاملة كادت تودى بالرئة الثانية..
أسرعت بإغلاق نوافذ السيارة ثم تساءلت: أليس هنالك قانون يمنع سير سيارات النقل فى هذا التوقيت؟ شعرت بأننى أصاب بزكام من أثر التكييف فأغلقته وفتحت النافذة ثم انتبهت بسرعة لغزو قادم فى الحال من عوادم السيارات فأغلقت النافذة وفتحت التكييف، اضطربت اضطرابا لكن الحمد لله اقتربت من مكان العمل.
وقفت فى الطابور الطويل للمصعد، ليست المشكلة الأعداد الكبيرة والحركة البطيئة وإنما تأمل ما حولى، فهذا محض الإحباط، فالوجوه مكفهرة، الرجال ذقونهم ملطخة ببذور شعر، كروشهم المنتفخة ووقفتهم المتهالكة أشعرتنى أننى فى مستشفى حكومى، أما السيدات فحدث ولا حرج.. تساءلت كيف صرن بهذه الأحجام المخيفة.. ثم أنّى لهذا المصعد أن يحتمل هذه الأوزان.. أشفقت على أزواجهم وتفهمت أسباب بقائهم طوال الليل على القهاوى.. أتى دورى فى الصعود واحتشد عدد كبير فى صندوق المصعد واحتشدت معهم الروائح وصارت أمنيتى هى الوصول بأقصى سرعة، فى الطريق إلى مكتبى انبعثت روائح الكشرى من غرفة مجاورة، بعض الموظفين انهمكوا فى أكلها على مكاتبهم التى تلاصقت على نحو لا يمكن أن يسمح لأحد بأن يسير بينها، إذن كيف يدخلون إليها؟ تكرر المشهد أمامى كثيرا فكيف لم أعرف الإجابة؟ فى برهة أجابنى أحدهم عمليا..
صعد بقدميه فوق المكاتب ثم قفز إلى الخارج فى حركة بهلوانية، وإن كانت واقعية جدا، وصلت مكتبى وانتظرت موعد اجتماعنا المهم.. لم يحضر أحد سألت عن أعضاء الاجتماع قالوا إن أولهم سافر بالأمس مضطرا، والآخر اعتذر بسبب حالة وفاة والثالث لم أهتم لمعرفة السبب فقد انقضى الأمر وألغى الاجتماع، أمضيت ساعة مع أصدقاء انتقدنا خلالها كل شىء فى العمل بل فى مصر كلها، ثم انصرفت عائدا إلى البيت، هناك وجدت ابنى قد عاد من المدرسة وانهمك فى اللعب، نهرته كثيرا لأنه لم يذاكر أولا وحدثته فى محاضرة طويلة عن أهم قيمة للإنسان فى الحياة وهى العمل، لكننى فجأة توقفت دون إبداء السبب.