لأن الفقى لما يسعد - كما يقول المثل الشعبى - يرزقه الله بمأتمين فى ليلة واحدة، فقد رزقنا الله، نحن الذين نتابع باهتمام مسألة تجديد الخطاب الدينى، بمؤتمرين - أو مؤتمر ولقاء - فى أسبوع واحد، يناقشان هذه المسألة، احتشد فى كل منهما جمع ملحوظ من رجال الدين والكتاب والأدباء والمثقفين والإعلاميين والفنانين والوزراء، مما جعل بعض السذّج منا يتوقعون ألا ينتهى الأسبوع إلا وقد بدأت الحرب على جبهة تجديد الخطاب الدينى.
أما المؤتمر الأول، الذى عُقد صباح الإثنين الماضى، بعنوان «مؤتمر آليات تجديد الخطاب الدينى»، فقد نظمه فضيلة د. محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، وشاركه فى افتتاحه اثنان من وزراء الحكومة، هما وزيرا الثقافة والشباب، وحضره الجمع الكريم إياه، وغاب عنه فضيلة شيخ الأزهر، ولم يُنب عنه أحداً، وانتهت أعماله بإعلان الوثيقة الوطنية لتجديد الخطاب الدينى، وهى تدعو إلى تعاون كل مؤسسات الدولة الدينية والعلمية والتعليمية والثقافية والفنية والإعلامية فى إنتاج خطاب عقلى وعلمى وثقافى ودينى وتربوى يتناسب مع ظروف العصر، ويحافظ على الثوابت الشرعية والأخلاقية للمجتمع، ويخلص الخطاب الدينى مما علق به من أوهام أو خرافات أو فهم غير صحيح ينافى مقاصد الإسلام وسماحته ولا يمس الأصول الاعتقادية.
وعلى طريقة الرد خالص، فقد عُقد اللقاء الثانى فى اليوم التالى مباشرة، بدعوة من فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وحضر جمع كريم آخر من أركان المشيخة ورجال الدين، والمثقفين والأدباء والمفكرين غير الجمع الذى شارك فى مؤتمر وزير الأوقاف، الذى لم يُدع إلى اللقاء، وربما كان الوحيد الذى شارك فى المؤتمرين هو فضيلة مفتى الديار المصرية د. شوقى علام، إعلاناً عن وقوفه موقف الحياد فى الحرب بين المعسكرات الدينية حول تجديد الخطاب الدينى!
ولم يكن الأمر فى حاجة إلى ذكاء كبير لكى يدرك كل الذين يعنيهم الأمر أن هناك ما يكدر صفو العلاقات بين فضيلة الإمام الأكبر وفضيلة وزير الأوقاف، وأن السبب فى ذلك هو مسألة تجديد الخطاب الدينى، وإن كانوا قد اختلفوا فى تحديد وجه المسألة الذى يكدر هذا الصفو، إذ البديهى أن الأزهر هو المسؤول عن تجديد الخطاب الدينى فى جانبه الفقهى.. بحكم قانونه الذى ينيط به مهمة «تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب، وآثار التعصب السياسى والمذهبى، ويجليها فى جوهرها الأصيل».. وبحكم أنه أكاديمية علمية تعليمية متخصصة فى الدراسات الإسلامية، والبديهى - كذلك - أن وزارة الأوقاف هى الجهة الأساسية التى يفترض أنها ستقوم بالجهد الرئيسى فى الترويج لهذا الخطاب الدينى - أو الفقهى - الجديد، بحكم أنها تشرف على شبكة واسعة من الزوايا والمساجد التى تخضع لإشرافها، وهى التى تعيّن أئمتها ووعاظها ومقيمى الشعائر بها، ومعظمهم من خريجى الأزهر أو الذين درسوا فيه، وهى شبكة تتوزع فى كل أنحاء البلاد.
أرجو أن أكون مخطئاً حين أقول إن انطباعاً قوياً تولّد لدىَّ بأن مؤسسة الأزهر تبدو غير متحمسة بالقدر الكافى للدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى، وأن فضيلة الإمام يتعرض لضغوط كثيرة من داخل المؤسسة، ربما تكون قد دفعته للتعامل بفتور مع هذه الدعوة منذ إطلاقها، وهو ما لاحظته ولاحظه غيرى عند المقارنة بين الخطاب الذى ألقاه فضيلته، والخطاب الذى ألقاه فضيلة وزير الأوقاف، فى الاحتفال بالمولد النبوى - فى بداية هذا العام - وهو الاحتفال الذى كرر فيه الرئيس السيسى دعوته إلى تجديد الخطاب الدينى بصورة أكثر شمولاً وحسماً مما فعله منذ طرحها بشجاعة فى الفضاء العام.. ووضع فأس المسؤولية عن إنجازها فى رقبة رجال الدين، قائلاً إنه سيحاججهم يوم القيامة أمام الله - عز وجل - إذا قصروا فى أدائها ففى حين بدا خطاب الوزير متحمساً بقوة لهذه الدعوة، لم يشر إليها فضيلة الإمام الأكبر فى خطابه بكلمة واحدة، أو يتخذ أى خطوة عملية ملموسة للاستجابة لها خلال تلك الشهور، مع أنها تدخل فى صميم اختصاص الأزهر ومسؤوليته بحكم قانونه، سواء كان الرئيس قد تحمس لها أو لم يتحمس.
ما لفت نظرى فى «الوثيقة الوطنية لتجديد الخطاب الدينى»، التى صدرت عن مؤتمر الأوقاف، أنها شددت على أن تجديد الخطاب الدينى ينبغى أن يحافظ على الثوابت الدينية والأصول الاعتقادية، وأن تصريح الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية عن اللقاء الذى دُعى إليه فضيلة الإمام الأكبر شدد على أنه سيكون فاتحة سلسلة لقاءات أخرى يعقدها مع المفكرين والمثقفين، تسفر عن صياغة وثيقة تصدر عن الأزهر وتتناول آليات وضوابط تجديد الفكر والخطاب الدينى، تساهم فى وضع أسس وخطط جادة ورؤى عملية تحمى المجتمع من الفكر المتطرف الذى يهدد استقرار المجتمع، وأن تنسيقاً سوف يجرى بعد اكتمال الوثيقة مع جميع الجهات المعنية فى الدولة لتنفيذ توصياتها على أرض الواقع.
وبصرف النظر عن بعض التعبيرات التى تعكس أن لدى مؤسسة الأزهر، أو دوائر داخلها، مخاوف من أن تفسر الدعوة لتجديد الخطاب الدينى على أنها خروج عن الثوابت الشرعية أو الأصول الاعتقادية، مما يتطلب وضع «ضوابط» لهذا التجديد، وهو ما كررته وثيقة الأوقاف، وهى مخاوف يشيعها المتطرفون والإرهابيون والمتعاطفون معهم، تبريراً لما يقومون به من أعمال إجرامية باسم الدين، فإن المهم الآن ليس حرب الوثائق، أو الانشغال بوضع الضوابط، وهى معروفة سلفاً، عن القيام بالمهمة الرئيسية، وهى تجديد الخطاب الدينى، بحيث يبدو أن حرب الوثائق هى حرب خداعية تستهدف الهروب من مواجهة العدو الرئيسى الذى هو الفكر الإرهابى!