حقيقة الوضع فى مصر مُركبة للغاية. الكثير من الأشياء يحدث فى الوقت ذاته. ثمة صراع ضارٍ على مستقبل تتجاذبه قوى هائلة فى أكثر من اتجاه. هناك وعد المؤتمر الاقتصادى (60 بليون دولار من الاستثمارات)، ووعيد داعش القابع على الحدود، بل بين ظهرانينا. تتحرك مصر وسط كل هذه التجاذبات وكأنها تخطو فوق حقل ألغام. أحياناً يبدو أنها تضع قدمها على أول طريق النجاة. فى أحيان أخرى، تبدو الرحلة وكأنها بلا نهاية أو غاية معلومة.
العالم بدوره ينظر إلى مصر ويقف محتاراً: هل ما يجرى مُقدمات استقرار وبشائر انطلاق أم علامات اضطراب مُستحكم وقلاقل مستديمة؟
قبل أسبوعين نشرت الإيكونوميست تقريراً عن حالة مصر عكس تلك الحيرة. التقرير يقول إن كل المؤشرات الاقتصادية تُشير إلى الاتجاه الصحيح. معدل النمو خلال النصف الأول من العام وصل إلى 5.3%، مقارنة بـ 1.2% خلال نفس الفترة من العام الماضى. البطالة تتراجع. الاستثمارات الأجنبية المُباشرة زادت بمعدل 140% عن العام الماضى. يُضيف التقرير أن هذا التقدم لم يحدث من فراغ. يُشير إلى أن قرار خفض الدعم عن المحروقات، فضلاً عن تسوية المتأخرات مع شركات الطاقة الكبرى، شجعت شركة بحجم «بريتيش بيتروليوم» على استثمار 12 بليون دولار فى مصر.
ولكن الصورة لن تكتمل قبل أن نعرف أن مصر تحتل المرتبة 112 على مؤشر البنك الدولى من حيث سهولة عمل المشروعات (للمقارنة: تركيا تحتل المرتبة 55، والمغرب 71). يحتاج المستثمر لتصريحات من 78 جهة حكومية لبدء أى مشروع. تُضيف الإيكونوميست أن ثمة غموضاً يكتنف الوضع السياسى والأمنى، وأن الاستقرار الظاهر قد يُخفى انتقال التهديدات إلى تحت الأرض.
إنها صورة مُركبة تعكس خطوات للأمام وأخرى للخلف.
هى نفس الصورة التى نقلها كلٌّ من «إريك ترايجر» و«صامويل تاضروس» و«نانسى عقيل» (وجميعهم من الخبراء المشهود لهم فى الشؤون المصرية) فى شهاداتهم أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط بالكونجرس الأمريكى قبل أيام. عنوان الجلسة كان «مصر بعد عامين على مرسى».
تابعتُ- على الإنترنت- وقائع الجلسة التى امتدت لما يزيد على الساعتين. وقرأتُ تغطية مميزة ودقيقة كتبتها عُلا عبدالله لهذه الصحيفة. أول ما سجلتُ هو تلك الحيرة الأمريكية مما يجرى فى مصر. ما زالت الولايات المتحدة عاجزة عن تحديد طريق واضح أو سياسة متماسكة إزاء الحُكم الحالى. ما زالت أمريكا «تجلس على السور»، بتعبير رئيسة اللجنة «روس ليتنين». أعضاء الكنوجرس يتراوحون فى مواقفهم بين اعتبار السيسى أهم حصن فى مواجهة اجتياح الراديكالية الإسلامية للمنطقة (كما قال أحد الأعضاء)، وبين إدانتهم للنظام المصرى بوصفه قمعياً.
سجلتُ ثانياً اجتهاد ترايجر وتاضروس فى تقديم رؤية متماسكة وواضحة. جوهر كلام «ترايجر» أن مصر تمرُّ الآن بحالة عنيفة من الصراع السياسى بعد الإطاحة بحكم الإخوان (صراع قاتل أو مقتول على حد تعبيره). هو يرى أن أكبر ما أضر بصورة الديمقراطية فى عيون المصريين لم يكن الإطاحة بحُكم مرسى، بل كان ممارسات مرسى نفسه فى وقت حُكمه. كان واضحاً أنه يتجنب- فى شهادته- وصف ما جرى بالانقلاب، لأن الصورة أعقد كثيراً من ذلك. قال لأعضاء الكونجرس بوضوح: لقد فقد مرسى السيطرة فعلياً فى نهاية حكمه، وغالبية المصريين ترى أن تحرك الجيش أنقذ مصر من حرب أهلية. أضاف أن مسار المصالحة مع الإخوان مغلق لأن هناك إشارات كثيرة على تورطهم فى العنف الذى تشهده مصر، بل إن أغلب المصريين يعتبرون إجراءات النظام القمعية مقبولة فى ظل هذه الظروف.
هذه صورة واقعية لأنها تعكس تعقيد الحالة المصرية. من الجيد أن يسمع أعضاء الكونجرس هذا الكلام ليدركوا أن سياسة أمريكا تجاه مصر لا يمكن أن تنحصر فى مطالبة النظام بالتزام الديمقراطية. من الجيد أيضاً أن يستوعبوا ما قاله «تاضروس» من أن مصير مصر ينبغى أن يشغل أمريكا لأن سقوطها سيكون كارثة مُحققة. لابد أن تمد أمريكا كل عون ممكن لمصر فى هذه المرحلة الحساسة. يتعين عليها أن تُساعدها فى بناء مؤسساتها وإصلاحها. ينبغى أن تُدرك الإدارة الأمريكية كذلك أن قدرتها على التأثير على رؤية النظام المصرى للصراع مع الإخوان صارت جد محدودة لأنه صراع حياة أو موت، كما قال تاضروس. حجب المساعدات العسكرية لن يُخضِعَ مصر، ولكن سيدفعها ببساطة إلى البحث عن مصادر أخرى.
لا أجادل بأن كل ما قيل فى هذه الجلسة يعجبنا، ولكنه بالتأكيد يُسهم فى رسم صورة أقرب ما تكون للموضوعية عما يحدث فى بلدنا. ينبغى أن نعترف بأن وضعنا مُركب للغاية. نرتكب خطأ شديداً إذا وقعنا أسرى لصورة وردية عن واقعنا نلزم الآخرين باعتناقها حرفياً. ما نطالب به الآخرين هو إدراك خطورة ما نواجهه، وعمق الهوة السحيقة التى نعافر كى لا نسقط فيها. كل من يُدرك هذه الصورة المركبة، بألوانها وظلالها المتداخلة، ويجتهد فى نقلها للآخرين يُساعد قضيتنا.