داخل محكمة الحقانية، وفى مكان يقع أسفل المحكمة مباشرة، توجد آثار قصتهما.. أشهر سفاحتين فى تاريخ مصر، ريا وسكينة، اللتين راح ضحيتهما 17 سيدة، وكانتا أيضا أولى سيدتين يتم اعدامهما فى تاريخ المحاكم المصرية، وشهدت على إعدامهما هذه الحجرات التى دخلتها «إسكندرية اليوم» ورصدتها بالصور.
على يمين الباب الرئيسى للمحكمة من الداخل، يوجد سلم حلزونى مظلم، أسفله باب من الحديد، موصد بالأقفال، خلفه ممران أحدهما على اليمين، و الآخر على اليسار، كان الأول شاهداً على إعدام ريا وسكينة، أرضيتها مغطاة بالقمامة والحجارة، وتسقط من جوانبه العناكب، فيسود المكان جو من الرهبة، وبه حجرات صغيرة على الجانبين فى كل حجرة منها نوافذ حديدية ضيقة، وبأرضها الكثير من الأحجار والرمال المبللة، ويتدلى من سقف الممر عدد من الأسياخ الحديدية والكابلات، أما الجدران فتغطيها آثار الزمن لتظهر مكاناً موحشاً.
الظلمة تكسو المكان لتزيد من قبضته، وتطرح تساؤلات حول شائعات بعض العاملين فى المحكمة، حول صدور أصوات «غريبة» بعد منتصف الليل، لا يعلمون مصدرها، ولا يدرون هل تاريخ ذلك المكان أم مظهره هو ما أوحى لهم بذلك.
الوقوف أمامها لا يعنى فقط أنك تقف أمام 124 عاماً فى ميدان تحيطه المبانى التاريخية وهو «ميدان المنشية»، الذى يتوسطه تمثال ضخم لـ«محمد على باشا» وقديماً حوى مبنى البورصة المصرية القديم وهى الأولى من نوعها فى مصر، وكذلك مبنى الاتحاد الاشتراكى الذى شهد إطلاق النيران على جمال عبدالناصر فى الحادث الشهير..
«الحقانيه» أو كما يطلق عليها «سراى الحقانية» واحدة من أقدم المحاكم فى الإسكندرية، أو كما يقول عنها المؤرخون إنها «كيان أثرى»، يقع فى ميدان من أهم ميادين المدينة بمنطقة المنشية، يرجع تاريخ إنشائها لعام 1886 على يد مجموعة من المهندسين الإيطاليين الذين كان لهم الفضل أيضاً فى إنشاء الميدان بأكمله.
وعلى الرغم من تعاقب الزمن عليها، فإنها لا تزال تحتفظ بعبق ذلك التاريخ بداخلها، وأيضاً الكثير من الأسرار والآثار والمقتنيات النادرة لأشهر القضايا التى فصلت المحكمة فيها، فبداخل حجرتين منها لا تزال بقايا وكنوز تلك الفترة، التى يعود تاريخها إلى أكثر من 150 عاماً، عندما تمر أمام أى من الحجرتين لا تجد ما يلفت النظر، إلا أنهما مغلقتان بمفتاح ولا شىء أكثر من ذلك.
«إسكندرية اليوم» اخترقت الحجرات، التى غلفها سياج حديدى و«قفل» محكم الغلق، لتكشف ما بها من كنوز ملقاة فى طرقات مظلمة محاطة بخيوط «العنكبوت» وجدران على وشك أن تنقض بعد أن أصابتها الرطوبة ولم تصل إليها يد التجديد منذ سنوات، حيث تقف خلفها مجموعة من اللوحات والمخطوطات النادرة، والمعرضة للسرقة فى أى وقت، وتنذر بتكرار سيناريو سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» التى تحاول الأجهزة الأمنية ووزارة الثقافة الوصول إلى سارقها.
فى الدور الأول بالمحكمة، المخصص لنيابة الأحوال الشخصية، وتحديداً بجوار حجرة الأمن كانت البداية.. حركة سريعة من أصحاب القضايا والمحامين، وبعض العمال يستكملون إجراءات نقل المحكمة وحفظ ملفاتها، وحجرة مغلقة تجاور الحجرة الأمنية وهى الوسيلة الوحيدة لتأمين المحكمة.
عندما تخطو بداخلها تجد حجرة قديمة الطراز، بها ما يقرب من 50 لوحة، يرجع تاريخها لأكثر من 100 عام، تحمل فى طياتها رائحة حقبة زمنية مضت من تاريخ المحاكم فى مصر، ليس ذلك فقط، بل صور نادرة لحكام المحروسة، وأبرزهم الملك فاروق، الحجرة بها نافذة جانبية مفتوحة، أرضياتها من الخشب، خالية إلا من منضدة صغيرة فى أحد جوانبها بجوار النافذة، عليها صندوق كبير من الزجاج، به «ميزانان» من النحاس «ميزانا العدالة»، مغلفين بالأتربة، و«سيف» يتوسط أعلاهما، بينما تتراص على أرضيتها لوحات تاريخية، الواحدة تلو الأخرى، يرجع تاريخها إلى أكثر من 120 عاماً، وتظهر تلك اللوحات أعضاء ورؤساء المحاكم المختلطة فى ذلك الزمن بداية من رئيسها الأول.
وفى جانب من ذات الحجرة، تم وضع لوحة كبيرة للملك فاروق، بالحجم الطبيعى، أسندت على باب آخر للحجرة من الناحية المقابلة، وبجانبها وضعت بقية اللوحات مستندة إلى الأرض والحائط، ومنها صور لبعض الحكام لتلك الحقبة وما قبلها، بأزيائهم التى تعبر عن ذلك التاريخ، وأخرى للملك فاروق بالزى الرسمى، وصورة قديمة لسراى الحقانية فى ذلك الزمن.
وتراصت صور كثيرة للقضاة الأجانب والمصريين واجتماعاتهم، باللغتين العربية والفرنسية وكتب على إحدى تلك الصور، اسم «جون جاكسون» أول رئيس لمحكمة الاستئناف والمحكمة المختلطة، ويبدو فى الصورة رجل ذو لحية بيضاء، يحمل الملامح الأوربية، وكانت فترة حكمه ثلاثه عشر عاماً كما هو مدون أسفل الصورة، وبجانبها صورة للرئيس التالى للمحكمة، وهو «موريس بيليه» الذى استغرقت فترة حكمه من عام 1894 حتى عام 1902.
فى جانب آخر، من الحجرة الواسعة، يقع عدد من الساعات القديمة «النادرة»، ذات أشكال مختلفة، بعضها بجندول، تتراص فوق بعضها البعض، وتتراكم عليها ذرات من الأتربة بحكم الزمن، افقدتها بريقها وقيمتها الفنية والزمنية، وتظل كقيمة تاريخية فقط محفوظة خلف الجدران والأتربة.
فى جانب آخر، من المحكمة توجد الحجرة الأخرى، التى يميزها باب خشبى كتب عليه فى لوحتين صغيرتين فوق بعضهما، رئيس قسم الحفظ، والأخرى قسم حفظ المختلط.
ووراء ذلك الباب، حجرة تمتلئ هذه المرة عن آخرها بالأرفف، المتراصة عليها مجموعة كبيرة من الكتب والسجلات، التى تخص فترة المحاكم المختلطة، وما بعدها، حيث يوجد على كل جزء من تلك الأرفف تواريخ تلك الأحكام، التى يرجع بعضها لعام 1879 وكتبت بالفرنسية.
وتنوعت سجلات الأحكام بحسب تاريخها، فالقديم منها يرجع إلى المحاكم المختلطة، بعضها على شكل سجل رفيع، والآخر أكثر عرضاً، كتب عليه أسماء القضاة وهيئة المحكمة والمحتكمين بالفرنسية، بينما كتب أعلى تلك السجلات بخط يد الكاتب، وكل ذلك باللغة الفرنسية، وتليها بعدة سنوات سجلات باللغة العربية مدون عليها اسم الملك.
وبمجرد دخول الحجرة، تجد أرففاً وأدراجاً خاصة بأسماء المختصمين فى القضايا، بينما تجد فى جانب آخر عدداً كبيراً من الأختام باللغتين العربية والفرنسية خاصة بالمحكمة والهيئة.
كانت تلك حقبة تاريخية بمحكمة الحقانية، وضعت بداخل حجرات مغلقة لسنوات طويلة، مازالت على أرض تلك الحجرات وفى أماكن منها تكسوها الأتربة الكثيفة، حتى أفقدتها بريقها بجانب الزمن.
من جانبه نفى الدكتور إبراهيم درويش، مدير عام متاحف الإسكندرية، علمه بوجود أى أثريات بالمكان، سواء كانت لوحات أو مخطوطات، وأكد أنه حتى فى حالة وجودها، فإن إدارة المتاحف لا تتحمل مسؤوليتها، ولا يوجد لها صلة بتلك اللوحات والمخطوطات والكتب.
وأشار إلى أنها تخص الآثار الإسلامية لأنها من العصرالحديث، أما المتاحف فتختص بالاثار القديمة مثل الآثار اليونانية والرومانية، وفق قوله.
وأكد الدكتور محمد عبدالعزيز، مدير عام آثار الوجه البحرى، بقسم الآثار الإسلامية، أن هناك لجنة تشكلت من الهيئة منذ أيام بمحكمة الحقانية، لمباشرة الأمور الخاصة ببعض الآثار هناك، برئاسة الدكتور إبراهيم درويش رئيس المتاحف. وأضاف: أى لوحة مر عليها 100 عام، تعتبر أثرية، وأن المتاحف بصفة عامة بها عدة قطاعات للأشياء التاريخية منها الثابت والمنقول.
من جانبه، قال وحيد يوسف، مدير عام آثار الإسكندرية: إن اللجنه المُشكلة بمحكمة الحقانية هى لجنة تم تشكيلها لتسليم الموقع لمركز الدراسات والآثار والبيئة بخصوص دراسة مشروع ترميم محكمة الحقانية فى الفترة المقبلة.
من جانب آخر، أكد مصدر مطلع، بهيئة آثار الإسكندرية، أن محكمة الحقانية تحتوى بالفعل على لوحات نادرة، إحداها بمكتب رئيس المحكمة، وأيضا اللوحات والكتب الخاصة بالمحاكم المختلطة، التى يرجع تاريخها إلى ما قبل 100 عام، وفق قوله.
وفجر المصدر، الذي طلب عدم نشر اسمه، مفاجأة بتأكيده أن تلك المقتنيات النادرة غير مسجلة حتى الآن، رغم أنها تندرج تحت بند الآثار، مشيراً إلى أنه لم تتم معاينتها عند تشكيل اللجنه رغم علم هيئة الآثار بوجودها.
واشار إلى أن هذه المقتنيات عبارة عن أثاث ومجموعة من الصور لرؤساء المحكمة، خاصة بتاريخ «الحقانية»، مؤكداً أنها ستفقد قيمتها فى حالة خروجها من المحكمة، لأن قيمتها تاريخية، وليست فنية، وفق قوله.
وأكد أن الاتجاه الحالى، هو بقاؤها لعمل متحف بالحقانية لعرض تلك المقتنيات، معتبراً بقاء هذه المقتنيات النادرة فى المحكمة هو الأفضل من خلال إنشاء متحف قضائى بداخلها، مشيراً إلى أن كل ذلك سيتم بعد عملية الترميم التى ستستغرق من 3 إلى 4 سنوات، وفق قوله.
من جانبه، أكد الدكتور عبدالحليم نورالدين، الرئيس الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، مستشار مدير مكتبة الإسكندرية، أن هذه المخطوطات واللوحات تعامل كآثار من العصر الحديث، مطالباً بتسجيلها والحفاظ عليها وهى تابعة لدار المخطوطات والقصور التاريخية ومسئولية المجلس الأعلى للآثار بالاشتراك مع هيئة الكتب والإدارة العامة.
وأضاف: إن كل شىء أبدعه الإنسان فى زمنه ويزيد على مائة عام هو أثر، وإن القيمة التاريخية ليست فى الأهرامات فقط، فالحقانية جزء من تاريخ القضاء فى مصر.. وشدد «نورالدين» على ضرورة إنشاء متحف لتاريخ القانون فى مصر، من العصر الفرعونى حتى الآن، توضع فيه هذه اللوحات وغيرها، أسوة بمجلسى الشعب والشورى ومتحف السكة الحديد والبريد بوزارة النقل والمواصلات العامة.
وأضاف: «من الممكن وضع تلك اللوحات فى الحقانية، ولكن فى أسرع وقت حتى يتم الحفاظ عليها، عن طريق تخصيص مكان مناسب وآمن، لإنشاء متحف، لأنه من الأفضل أن تكون تلك اللوحات فى مكان له صلة بالقضاء سواء متحفاً منفصلاً أو جزءاً مخصصاً من المحكمة، حيث إنها تؤرخ للقضاء ورجاله فى مصر فى حقبة زمنية معينة، لكن ذلك لا يمنع أنها قيمة تاريخية منفصلة، لأنها تمثل أشخاصاً ذوى حيثيات وقيمة فى عصرهم وبالتالى فهى ذات قيمة تاريخية».