المُعارضة الجادة وليست المُصطنعة. المُعارضةُ الصريحة التي تقول كلمة الحق على وقتها، مثل الصلاة على وقتها. المُعارضة التي تُخاطر ولا تنتظر لحظة الأمان.
المُعارضةُ التي تدفعُ ثمن الموقف ولا تنتظر المغانم بأثر رجعى. المُعارضة التي تكشف غياب الرؤية عند النظام. المُعارضة التي تنقل الصراع إلى مساحات يستفيد منها الشعب، خاصة أن نظام الحكم ليست له رؤية في القضايا الكُبرى: في استقلال القضاء، في تحديث التعليم، في تطوير منظومة الرى، في إصلاح شبكات النقل والمواصلات، في ضمان مصادر الطاقة، في تأمين مستقبل الشباب واستيعابهم في سوق العمل وفى الشؤون العامة، في حرية الصحافة والإعلام، في إنعاش الاقتصاد، في تأمين العلاج وإعادة بناء منظومة الخدمات الصحية، إلى آخر ما يدخل تحت بند السياسات العامة، التي يبدو لكل ذى عينين أن نظام الحُكم فيها بائسٌ وتعيسٌ وفقير.
المُشكلةُ الكبرى: عندنا حاكمٌ فقط، ليس عندنا نظام حُكم. حاكمٌ فردٌ، يديرُ البلاد وحده، مع مجموعة من الموظفين، يحملون ألقاب الوزراء، يقودون- تحت رئاسته- أجهزة ومرافق بيروقراطية ينخر فيها الضعفُ والتخلف والترهل، والفساد يمرح فيها ويسرح دون استثناء واحد. والنتيجة: الناس مخنوقة، خنقة في لقمة العيش، خنقة في الحريات، الأمل ذات نفسه مخنوق.
تقريباً، ليس عندنا مُعارضة: فالناس تستشعرُ الحرج من إعلان رأيها حتى لا يشمت فينا الإخوان، أو حتى لا يضعف موقفنا في مواجهة الإرهاب، أو حتى لا تُتهم بتفريق الاصطفاف الوطنى، أو خوفاً من العواقب، مع أننى أستبعد أي خطر على أي صاحب رأى مختلف مع الحاكم.
للأسف الشديد: 30 يونيو لا تؤمن بفكرة المعارضة من الأساس، وهى تسمح لبعض الأصوات مثلى، لأنها تعلم محدودية تأثيرهم، ولكنها استأصلت المعارضة الفاعلة من جذورها، استصدرت قانون التظاهر، ثم استدرجت به القوى الشبابية الثورية، ثم نجحت في الاستدراج وأوقعت بهم وراء أسوار السجون والمُعتقلات. فاختفت بذلك قوة الدفع الكُبرى، لأن الشباب- بكل عيوبهم ونواقصهم- هم الأكثر إقداماً على المخاطرة، وهم الأكثر قدرة على المصارحة والمُجاهرة بما يعتقدون.
للأسف الشديد: سكت العواجيزُ عما فعلت 30 يونيو بالشباب، وها هي تستديرُ إليهم تُسكِتُ كل عجوز بما يُناسبُ حالته وبما تسمح به ملفاتُه، سكت العواجيزُ عن إذاعة تسجيلات الشباب، ومن باب الإنصاف، أذكر أن الوحيد الذي أدانها هو الدكتور حازم الببلاوى، وكان رئيساً للوزراء. ولكنه- الببلاوى- المسؤول عن إصدار قانون التظاهر، وفى عهده جرت الُخطة المُمنهجة لإقصاء الشباب من المشهد السياسى، ليس بتهميشهم فقط، لكن بترويعهم برؤوس الذئاب الطائرة أو الذئاب التي وقعت في القفص الحديدى.
وللأسف الشديد، كذلك، أن تكون المعارضة في الداخل وليست في الخارج، ولا أقصد بذلك إخوان الخارج، ولكن أقصد جملة الانتقادات والمآخذ التي يقف عندها المجتمع الدولى، وعدد من العواصم المهمة، وكبريات المنابر الإعلامية المؤثرة في الساحة الدولية، ليس من مصلحتنا أن تكون افتتاحيات صحف مثل «الواشنطون بوست» و«نيويورك تايمز» ضدنا بهذا الشكل، هي تمثل أشد وأعنف ألوان المعارضة، وهى- بالقطع- ليست من الإخوان، وليست مع الإرهاب، وليس من العقل أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونتعامى عن هذه الحقائق، هذه المُعارضة الدولية لا تقف عند حدود نقد هذا الموقف أو ذاك، أو استهجان هذه السياسة أو تلك، بل أستطيعُ القول: هذه المُعارضة الدولية أقربُ ما تكون إلى حصار إعلامى، يؤدى- مع الأيام- إلى شلل دبلوماسى، يقود- دون أن ندرى- إلى قطيعة اقتصادية، تحرمنا من أن يكون لنا نصيب من كعكة الاستثمار العالمى.
آخرُ الكلام: سكت الداخلُ خوفاً أو طمعاً أو اقتناعاً أو انتظاراً، فنطق الخارج.
تلزمنا معارضة وطنية قوية، تحمى الحاكم من أخطائه في الداخل ومن المتربصين به في الخارج.