لا الزند ولا غيره يستحق أن يكون هو القضية التي تشعل مصر، القضية هي كيفية الخروج من منحنى الهبوط الذي نعيشه على المستويات كافة.
لذلك لن أنجرف إلى معارك كلامية حول الشخص (أي شخص)، ولن أفتعل أزمات تؤخر تركيزنا في مهمة تحديث مصر لتصبح دولة عصرية تلتزم بمعايير التقدم التي أفرزتها الحضارة الإنسانية من حولنا، ولن أشارك في إشعال فتنة تعكر سماء الوطن وتثير الغبار في الطريق نحو المستقبل الذي نتمناه.
مصر ليست الزند ولا محلب ولا السيسي نفسه، مصر ليست الاتحادية ولا الجيش ولا الإخوان، ولا أي حزب من الأحزاب، مصر هي الكل، هي الأمل الذي يضم الجميع في حضن حلم يمكن تحقيقه بعد طول انتظار، لا يعنيني أن يكون عنوان هذا الحلم هو «النهضة» أو «أد الدنيا»، ما يعنيني ألا يكون العنوان كاذبا ومضللا، ويعيد تدوير التخلف، وفرض الهيمنة والتسلط بنوع من الخداع الذي يستخدم الأزمات المزمنة كفزاعة لإخضاع الشعب ودفعه للقبول بالقديم الذي رفضه من قبل وثار عليه.
عندما خرج الشعب في 25 يناير للاعتراض على نظام مبارك، رفع شعارات الحياة الحرة الكريمة العادلة (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية)، وعندما خرج الشعب أيضا في 30 يونيو، فإنه خرج بالأساس دفاعا عن هوية الوطن الذي يريد أن يحقق فيه حياته الحرة الكريمة العادلة، وهذا يعني أنه لم يستبدل شعارات ثورة يناير، بل سعى لتأكيدها وأضاف إليها معركة الهوية الوطنية وهي جزء من النضال الدستوري الذي يحمي النظام الجمهوري في مواجهة دولة استبدادية تتستر خلف شعارات دينية وحلم الخلافة بكل ما يثيره من شجون وحنين لدى شعب هزمه الفساد من الداخل ودمرته التبعية للغرب من الخارج.
ثورتنا إذن لم تكن ضد الإخوان، كانت ضد الفساد، والاحتكار، والتخلف، والتبعية، والتسلط، ولما وصلت الجماعة إلى الحكم، وأظهرت في سياستها نفس الأمراض التي كان عليها نظام مبارك، انتفض الشعب بدعم من النظام القديم لإطاحة الإخوان من الحكم.
الثورة في يناير تمت بدعم من الإخوان، وفي يونيو بدعم من نظام مبارك، وفي الحالتين آلت إلى الداعمين وليست إلى الثوار، لأن الثوار كانوا ولا يزالوا حالة ضميرية غير منظمة، لا يمتلكون الخبرة ولا الأدوات التي تسمح لهم بالسيطرة على الحكم، ولا بالقدرة على تسيير دولة في حجم مصر.
لهذا كان الرهان على قوة عاقلة تستلهم روح الثورة، وتتبنى مبادئها، وتحكم باسمها، وبناء على ذلك فإن أي حاكم يأتي لا يجب أن يفرض إرادته الخاصة أو الفئوية، لأن الشعب أعلن مايريده في شعارات واضحة، أضاف إليها في 30 يونيو مطلب مكافحة الإرهاب.
أكتب عن الثورة منذ 25 يناير، لنتذكر معا أن الناس لم تخرج على سبيل الملل، ولا بناء على دعوة من حزب ضد شخص ما، ولا رغبة في الانتقام من جماعة، الناس ثارت من أجل حياة حرة وكريمة وعادلة وآمنة، وهذه هي المطالب التي يجب أن نحاسب أنفسنا عليها، ونحاسب حكامنا بقدر استطاعتهم تحقيقها وفق جدول زمني يراعي الحاجات والإمكانات.
الثورة إذن لم يكن فيها زند، ولا هند، وأنا شخصيا لم أسمع عن التاريخ الثوري للزند، وما يقال عن وقفته البطولية في مواجهة الإخوان ينطبق على الراقصة سما المصري، وعذب اللسان مرتضى منصور، والبلطجي العاطل الأخنف أبوشفة، وهذا لا يعني أن نستيقظ غدا لنشاهد صورة سما وهي تؤدي اليمين كوزيرة للإعلام أو الثقافة تقديرا لبطولتها في التصدي لحكم الإخوان، أو نستمع إلى قاموس مرتضى المميز وهو يدلي بتصريحاته الدبلوماسية كوزير للخارجية، أو نقبل بالأخنف رئيسا للمجلس القومي لحقوق الإنسان!
هذه المبالغات المغلوطة تستهدف تصنيع بطولات وهمية لعدد من خدم السلطة، وهي حيلة خبيثة، الغرض منها تحويل سنة حكم الإخوان إلى سلة تجميع للغاضبين باعتبارها فترة الهوان العظيم، والخطر الشديد، والفساد الأوحد الذي عانت منه مصر، بحيث يسهل علينا أن ننخدع ونتسامح مع جرائم الفساد والقمع والتجريف والانحراف السياسي في دولة مبارك، مع أن فترة الإخوان مجرد «جملة اعتراضية» في كتاب الفساد المخجل الذي استمر لأكثر من ربع قرن، وبالتالي فإن ماينطبق على خيرت الشاطر يجب أن ينطبق قبله على رموز الفساد في نظام مبارك.
فلماذا نهلل لإعدام فاسد أو متسلط أو إرهابي (محدث سلطة) في نظام الإخوان العابر، بينما نوزع أوسمة البطولة ومقاعد السلطة على فاسدين ومتسلطين وإرهابيين أفسدوا الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية في نظام مبارك المقيم المزمن؟
وهل يمكن أن يؤدي بنا هذا الفصام إلى المستقبل الذي ننشده؟
هل يمكن أن نحقق الحرية والعدل والمساواة في دولة جديدة، بنفس الوجوه والمفاهيم التي أفسدت حياتنا، وأضعفت دولتنا؟
السؤال للرئيس ولكل مواطن في الشعب الذي يعمل عنده الرئيس، فهل تذكر أيها الرئيس أنك تعمل عند الشعب؟، هل تذكر هتاف: الشعب يريد..؟ وهل تتذكر مايريده الشعب؟ أتمنى.
جمال الجمل