أرجو، عزيزي القارئ، أن تستمع لأغنية الرضا والنور والصبايا الحور أثناء قراءة هذا المقال.
(2)
لوزير العدل الجديد المستشار أحمد الزند كلمةٌ جليلة على جبل عرفات، إن دلت على شيء تدل على تقوى وورع الرجل، وحسن شمائله (اللهم زده إيمانًا).
توجّه الزند، في كلمته، للمشرع المصري، راجيًا أن يخلص المصريين من مخالفة قانون العقوبات للشريعة الإسلامية، قبل أن يودي بنا الأمر إلى التهلكة.
وبمعزل عن ربط بعض الخبثاء توقيت هذه الكلمة التي ألقاها الزند (وهو بين يدي ربه في البلد الحرام بملابس الإحرام!) بمغازلته للإخوان، أثناء حكمهم، إلا أن الكلمة تعكس تقوى الرجل ومخافته الله.
ففي تقرير لصحيفة الوطن، قال الزند في أول أيام دخوله الوزارة، حين سأله حارس الأمن: هل تحمل سلاحًا؟ فرد الوزير: سلاحي مسبحتي (الله الله).
وانطلاقًا من ورع الرجل الذي يكاد يقسم أنصاره أنه يبكي حتى تخضلّ لحيته (رغم أنه حليق)، واستلهامًا من أمارات التقوى التي تستولي على ناصيته وعلى وجهه الذي يشع سماحةً (كأنه الحمل الوديع)، أنصحه أن يتنازل عن منصبه الجديد، أسوة بالإمامين الشافعي وأبي حنيفة، فما هو بأقل منهما ورعًا.
(3)
أراد أبوجعفر المنصور أن يختبر ولاء الإمام أبي حنيفة له وللدولة العباسية، فطلب منه أن يتولى القضاء، وهو ما يعني موافقة الإمام أبي حنيفة على سياسات الدولة العباسية واعترافه بشرعية ممارساتها، فما كان منه –رضي الله عنه- إلا أن رفض وقال: لا أصلح!
فقال له المنصور: كذبت.
فرد أبو حنيفة: إن كنت كاذبًا، فإني لا أصلح للقضاء! وإن كنت صادقًا فقد قلت لك إني لا أصلح.
فاغتاظ أبوجعفر المنصور، وأقسم أن يتولى النعمان القضاء، فما كان من الإمام إلا أن أقسم ألا يتولى.
ودأب الإمام أبو حنيفة على انتقاد أحكام القضاء المُسيّسة في عصر الدولة العباسية والتي تخالف الشريعة الإسلامية كل المخالفة، حتى سجنه المنصور وضربه بالسياط، ولم يفرط أبو حنيفة في مبدئه، حتى مات تحت تأثير السجن والجَلْد.
ولا أراك عزيزي الزند أقل تقوى ولا ورعًا، نحن نريدك خارج المنصب، نريدك سيفًا بتّارًا، تراقب القضاة والقضاء وتنطق بالحق، مثلما فعل أبو حنيفة.
ارفض الوزارة يا أحمد بن الزند..
(4)
ومن قبل أبي حنيفة، فعل الشافعي مع الدولة الأموية، حين عرض عليه القضاء يزيد بن هبيرة، فأبى الأمام، فسجنوه شهرًا، ثم أخرجوه من السجن إلى دار القضاء ليقضي بين الناس، فأُجلِس كرهاً، فجاء إليه الخصوم، فكان إذا جلس الخصمان يختصمان، هذا يذكر كلامه، وهذا يذكر كلامه، يقول: فهمت كلامكما، لكن لا أُحسِنُ القضاء بينكما!
ولما تكرر هذا التصرف منه، قيل لـيزيد بن هبيرة : لو نثرتَ لحمه فلن يقبل القضاء، سجنتَه شهرًا، ثم أخرجتَه إلى دار القضاء، وفعل هذا. ثم أقنعوا ابن هبيرة، فتركه وشأنه.
وإني حين أعرض شخصية المستشار الزند على ذهني، أراه رجلًا تقيًّا ــ تقي يكاد يناطح تقوى الشافعي ــ ولعله قَبِلَ المنصب تحت ضغوط بالغة. لعله قابل السجن كالشافعي، ولعل السياط ألهبت ظهره كأبي حنيفة، حتى يقبل.
من منا يدري ماذا جرى في الأيام التي تلت استقالة المستشار الجليل محفوظ صابر؟ لعل الزند كان محبوسًا في أحد أقبية الاتحادية بينما تنال السياط من ظهره الكريم كي يقبل المنصب.
(5)
سيدي المستشار الزند، لعلك وأنت تقرأ القرآن (في الهزيع الأخير من الليل) تُصادف ذات مرة قول الحق عز وجل (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، فاعلم أنه لن يصيبك إلا ما قدّر الله عليك.
أيها القاضي الشجاع، اترك هذا المنصب، واذهب لمكة المكرمة، وسجل مواقفك هناك بين أرحم الراحمين، كما فعلت من قبل، فإن القبر غدًا سيضمنا جميعًا، ولن ينفع المنصب ولن يُغني عنك من الله شيئًا.