x

عبد الرحيم كمال مصر الحال والأحوال.. التليفزيون المصرى عبد الرحيم كمال الأربعاء 20-05-2015 21:11


من يشاهد التليفزيون المصرى؟

سؤال يلح، ويواصل الإلحاح، ولا أحد يجيب. الدش لم يعد مستقرا فوق الفيلل والقصور، ولكنه استقر فوق العشش والأسطح الفقيرة، طار الحمام، وهجّ من بيوت الناس، وحل محله الدش، كما حلت نخلات شركات الاتصالات محل نخلات تطرح البلح الأمهات والرطب. وتتوالى الأسئلة التى بلا إجابة بداية مِن: مَن يشاهد، إلى لماذا؟ وماذا؟ وهل؟ ومتى يشاهد المواطن المصرى تليفزيونه الوطنى؟

فى القديم، كان الملك هو المسيطر على الناس بقناة واحدة ثم قناتين، وبعد ذلك توالت القنوات المحلية الكثيرة وعديمة المحتوى فى كل افتتاح إعلامى يشهده الرئيس، يعلن عرّاب الإعلام المصرى العتيد صفوت الشريف عن قنوات وأقمار صناعية ومدن للإنتاج الإعلامى والسينمائى، ويصبح الريموت قادرا على التقليب فى قنوات تتحدث عن الصعيد وأخرى عن القناة، وثالثة عن البحر، ولا شىء يحدث على الشاشة.

بدأ الانهيار الحقيقى حينما فتحنا دكاكين بلا بضاعة، وأنشأنا مصانع لا تصنع شيئا، وصارت القنوات المركزية هى الأكثر وضوحا وإنتاجا، وغلب الكم على الكيف لا يهم، المهم أن يكون هناك جديد فى كل مرة، وأن يقال للرئيس عن أشياء تحدث، والأهم أن هذا الصرح الكبير المبنى على هيئة تورتة متعددة الأطباق ظل معبرا من حيث الشكل والمبنى عن معناه، فهو التورتة التى يتقاسمها بانتظام، وتفاهم الأذكياء من أهل الإدارة والإعلام فى المنظومة التى أخذت تتوسع بلا أى معايير أو علم، ومع هذا الاتساع الأخرق فى تصنيع مشاريع وهمية وقنوات وهمية ظهر ما هو أخطر وأدهى وأمر، وهو خروج ثروات المبنى وكنوزه إلى خارج المبنى.

تراث مرئى وإذاعى وجهد وتاريخ وصورة دولة بأكملها عبر ستين عاما وأكثر يتم تهريبها وخروجها إلى خارج المبنى لتمتلئ بها استديوهات وبيوت ومكاتب تنتمى لدول أخرى وجهات أخرى فى أكبر عملية ضياع لتراثنا المرئى والمسموع- وحدث نفس الشىء تقريبا فى السينما ذات التاريخ الأقدم والأهم، وبيعت، ونهبت، وسرقت أصول الأفلام المصرية وامتلأت بها قنوات خليجية، فإذا افتقدت فى لحظة ما نجيب الريحانى أو على الكسار أو حفلات أم كلثوم أو حوارا مع عبدالحليم حافظ أو مسرحية لفؤاد المهندس وشويكار، فلا تقلق ربما يحالفك الحظ، وترى ما تحب من تراثك الفنى على قناة خليجية شقيقة، ظل التليفزيون المصرى بروافده وقنواته المتعددة ينهار، ولا أحد يمد يده إلى ذلك الانهيار بأى طريقة من الطرق لا بالمصارحة ولا بالإصلاح ولا بالإسعاف ولا بالدمج ولا بالتخصيص ولا بإعادة التنظيم ولا بأى طريقة من طرق التفكير المعتادة أو غير المعتادة. فقط كيان هلامى يمتد، ويعلو، وينتشر بلا مبرر ولا إيقاع، ثم جاءت اللحظة التاريخية الحاسمة التى فصلت الجمهور عن الشاشة للأبد وبغير رجعة، وهى الأيام الأولى من ثورة يناير ٢٠١١ حينما كانت كاميرات التليفزيون المحلى تخبرنا زورا بأن كل شىء هادئ وجميل ومستقر، بل أكثر من ذلك أن كل شىء أيضا خلاب ورومانسى.. نعم رومانسى، فقد خرجت كاميرات التليفزيون العريق لتقف على كورنيش النيل كالعشاق، وترينا الكورنيش الهادئ، والنيل الذى يسير بشاعرية ومحبة، وعلى بعد مئات الأمتار فقط من تلك الكاميرات الكاذبة كانت الميادين تهدر، والبلد تفور، وقد بلغت الأرواح الحناجر، فى ذلك اليوم فارق المواطن شاشة تليفزيون بلاده للأبد، وحلت عليه اللعنة منذ تلك المقاطعة، وانشكفت عوراته، وظهر الفساد المتراكم فى سنواته الأخيرة ليحدث شىء عجيب جدا بعد ذلك، حينما تنقطع الكهرباء عن المبنى وتظلم الشاشات، لم يرتبك أحد من الجمهور، لم يفتقد الجمهور شيئا فى يومهم العادى، ربما ارتبك الناس أكثر حينما اسودت شاشات القنوات التى تعرض، من خلال الدش فى الليلة التى هوجمت فيها كابلات مدينة الإنتاج الإعلامى الخلفية، ليلتها قلق الناس، وخشوا أن يتم حرمانهم من وجبات النميمة الإعلامية المصروف عليها جيدا فى القنوات الفضائية، خافوا أن يفتقدوا مسابقات المطربين والمذيعين وحلقات العرى اليومية، لكن لم يظهر أى رد فعل على الناس حينما انقطع التيار عن التليفزيون المصرى- جهاز الدولة الرسمى وشباك الوطن الشرعى- لأنه فقد شرعيته ووطنيته حينما تخلى عن جمهوره ذات يوم، جمهوره، وهو المواطن المصرى الذى تحمل فساد الإعلام، وتحمل أن يكون شكلا بلا معنى، وتحمل أن يصنع قنوات وهمية لكنه لم يتحمل كاذبا ولا مغرضا، ولم يقبل منه أن تعطى كاميراتها ظهرها له فى يوم فاصل احتاج فيه إلى صدقها وعلى هذه التورتاية متعددة الطوابق أن تعيد صياغة نفسها حتى يحق لها أن تطل على الكورنيش المصرى بتلك الرومانسية العجيبة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية