نحن نعيش فى سلطانية، فما القاهرة إلا سلطانية كبيرة، والتعبير ليس فيه أى انتقاص من مقام عاصمتنا، بل هو تقرير لحقيقة بيئية تصف المدن التى تخضع لما يسمى «تأثير السلطانية» bowl effect وتشمل طِبقا لما ورد فى دراسة الدكتور فى الهندسة الكيميائية والهندسة البيئية صلاح حسانين والمنشورة فى موقع «أراب ورلد بوك» كلا من: مكسيكو سيتى، وبانكوك، وسان باولو، ودلهى، وطوكيو، والمصنفة كأكثر المدن ملوثة الهواء فى العالم.
القاهرة كما مكسيكو سيتى تحديدا، تشبهان فى تضاريسهما إناء مجوفا، فى قاعِه تترامى المدينة، وتحيط بها تضاريس مرتفعة، هى هضاب «أنَهواك» فى حالة مكسيكو سيتى، وهضبتا المقطم والهرم فى حالة القاهرة، هذا التشكيل يحبس تيارات الهواء فى تجويفه، ويُنتِج حالة ركود جوى يكاثف من جزيئات الملوثات فى الهواء، نتيجة غياب ما يسمى عوامل التشتيت dispersion factors التى تبعثر الجزيئات الملوِّثة، كالغبار والسناج وثانى أكسيد الكربون والرصاص وغيرها، فتخفف نسبتها فى الهواء، وإذا قورنت القاهرة بمكسيكوسيتى، لاتضح أن القاهرة أسوأ حظا، فمطرها نادر، ولا تعصف بها رياح، وإن عصفت تأتى محملة بغبار الرمال والأتربة من الصحراء المحيطة، لهذا يُرجَّح أن هواء القاهرة أكثر تلوثا من هواء مكسيكو سيتى، خاصة أن ارتفاع عمائرها «الحديثة» والضِيق النسبى للشوارع التى تطل عليها هذه العمائر، يشكلان فى المناطق الأحدث والأكثر عشوائية حشودا من التجاويف الحابسة للهواء يزيد فيها «تأثير السلطانية»، فكأن المدينة سلطانية كبيرة تحتوى داخلها سلطانيات أصغر، ومن ثم، ليس غريبا أن تقول تقارير منظمة الصحة العالمية إن تلوث هواء القاهرة يزيد من 10 إلى 100 ضعف المقبول عالميا كحدٍ آمن، مما يهدد سكانها بمخاطر صحية أبرزها أمراض الجهاز التنفسى والسرطان، ويكلف خسائر مالية بالمليارات وخسائر بشرية تُقدَّر بمليون إنسان تنقصف أعمارهم مبكرا فى سنوات قليلة. والحديث هنا عن عنصر واحد من عناصر التلوث، لو أضفنا إليه تلوث المياه، والتلوث السمعى بالضوضاء، والتلوث البصرى بالتشوه المعمارى، لأدركنا فداحة محنة القاهرة، وهى محنة بنيوية فى تكوينها الجغرافى إضافة لعواقب الممارسات البشرية، لكن القاهرة العبقرية ظلت تبتكر أساليب لمواجهة «تأثير السلطانية» السلبى بما أُسمِّيه «واحات» بيئية تقاوم هجير الموقع، فهل يمكن اعتبار «تطوير شارع الألفى» محاولة فى هذا السياق؟
لقد تصادف أن كنت قُبيل الإعلان عن افتتاح شارع الألفى بعد تطويره فى بيت السحيمى بالجمالية، وبرغم حرارة الجو نسبيا، فنسائم طرية كانت تهب على مجلسنا فى الباحة السماوية داخل هذا البيت آسر الجمال المعمارى وعاطر العبق التاريخى، كما أن طريق الذهاب إلى بيت السحيمى فى الدرب الأصفر ثم العودة منه، كان يمر بشارع المعز بعد تطهيره من الفوضى والزحام ودهس السيارات، وكان هناك أيضا ذلك النسيم الذى يعلن عن نجاح المكان فى مقاومة «تأثير السلطانية» الحابس للهواء والمُكثِّف للملوثات، فالشوارع راعى فيها المصمم العريق اصطياد فوهاتها للنسائم الشاردة وتبريدها بالظلال الموجودة دائما فى جانب على الأقل من جوانب الطريق، يدعمها البياض العاكس لسعير الشمس الذى تيسره مادة البناء من الحجر الجيرى الأشهب. فماذا عن وسط القاهرة؟
لا شك أن هناك جديدا جميلا فى وسط البلد برغم الظروف الضاغطة على الدولة والمتمثلة فى خوض حرب حقيقية يومية ذات طبيعة إجرامية يشنها على البلد كله من لا يمكن تبرير إجرامهم بأية دعاوى دينية أو اجتماعية أو حتى سياسية، لكن هذا الجديد الجميل ذو طابع يفتقد منطق «الاستدامة» sustainability كما فى مشاريع عديدة أخرى أكبر وأخطر شأنا، فى مجالات الإسكان والطاقة والمياه والزراعة ولا بد أن نجاهر برأينا فيها، لأنها لا تخصنا الآن فقط، ولا تخص مقدميها ورعاتها مهما كان شأنهم، فهى ذات أبعاد مستقبلية تخص أولادنا وأحفادنا شعبا وحُكما، وهذا موقف أخلاقى وعاطفى وإنسانى، وعلمى بالضرورة.
وفيما نتحدث عنه يمكن القول بأن «تأثير السلطانية» وإن كان حظا جغرافيا غير سعيد للقاهرة اختاره الأسلاف مضطرين ليلوذوا بخيرات حوض النهر، إلا أن النشاط البشرى الخاطئ، كثيرا ما يفاقم سلبيات هذا الحظ، وهو ما حدث فى القاهرة وتفاقم فى السنوات الأخيرة، بفعل الزحام والفوضى وغياب سلطة العدل المقرون بالقوة القانونية، كل ذلك كدَّس فى سلطانية البيئة مزيدا من الملوِّثات المُلهِبة للصدور والخانقة للقلوب والمُصمَّة للأسماع والمُكئبة للناظرين، والمنعكسة فى انحطاط سلوكى متفش ومتبجح. ولا شك أن فضفضة براح وسط البلد وتجميل بناياتها أمر جيد، لكن هل نرى فى ذلك منطق الاستدامة؟
لقد بدأت أصير قاهريا بالحاضر المعيش، وإن ظللت منصوريا فى داخلى بقوة الحنين وافتقاد الماضى الذى كان فى حسبانى جميلا، ومن ثم بدأت أحتفى بكل «واحة» بازغة أو واعدة فى القاهرة، لهذا تابعت بتشوف وتشوق ما بثته التليفزيونات مساءً عن «افتتاح رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب لشارع الألفى بعد تطويره»، وجعلتنى الصور المبهرة أتوه عن معرفة المكان الذى سارعت إليه فى الصباح، نعم صار شارع الألفى أجمل، نوَّرت واجهات أبنيته بالأبيض الكريمى المُشرق، ورُصفت أرضه وتزينت واجهات محاله، لكن هذا الشارع كان مغلقا للمارة من قبل، أكلت فيه منذ سنين ساندوتشات الفول والفلافل من مطعم شهير بالشارع جالسا على أحد المقاعد البسيطة والأنيقة التى كانت متاحة للعموم، وتمت إزالتها. ثم إن هذا المشروع لا يزيد على مائة متر، وحتى هذه المائة متر لمحت فيها ما يهدِّد تطويرها بالانتكاس!
أعتقد أن الفلسفة الكامنة فى «تطوير» مناطق مخصصة للمشاة فى مدينة كالقاهرة تنصب على أهداف جمالية حضارية وإنسانية فى ذهن المصمم، لكنها بالقصد أو بدونه تضاف إلى مقاومة تأثير السلطانية الضار إياه، فهى واحات عمرانية تخفف من هجير التلوث، وقد بدأ ذلك من قبل فى منطقة المشاة المحيطة بالبورصة فى وسط البلد، لكن سرعان ما راح التخلف والفظاظة وسبوبة الفساد الإدارى والبحث الهمجى عن الربح يدمرون هذه الواحة، صارت مدخنة فى سلطانية داخل سلطانية فى سلطانية القاهرة الكبرى، ينبعث منها سخام دخان التشييش وربما التحشيش، وتتكالب عليها أنماط من البشر تنطق سحنهم وتصرفاتهم بسلوك إجرامى كامن، وانتهى الأمر بمعارك داخلية لمعت فيها السنج والسيوف وطقطقت المطاوى ولعلع الخرطوش. وكان أن تعالت استغاثات سكان العمارات المحيطة، واضطرت الشرطة للتدخل. صارت منطقة المشاة بالبورصة واحة مهجورة، وقد مررت بها فى طريق عودتى من شارع الألفى بعد« تطويره»، فشعرت بالانقباض!
ضمن التعريفات العديدة للاستدامة يمكن استخلاص قاعدة الوفاء الآنى باحتياجات الحاضر مع الحفاظ على متطلبات المستقبل، وفى موضوعنا تكون استدامة تطوير شارع كالألفى، ماثلة فى تواصل حيويته وفعاليته فيما أُنشِئ له، اعتمادا على آليات المراقبة المستمرة للأداء والصيانة وعدم تجاوز الحدود البيئية والقانونية، لتظل متنفسا فى قلب الهجير القاهرى يخفف من الضغوط النفسية والصحية على الناس، وألا يُسمح للفساد الإدارى والتربح الأنانى والوضيع بتحويل شارع للمشاة إلى مدخنة للتشيش، وربما التحشيش، المُفاقِمَين للانبعاثات الملوثة للهواء عوضا عن التلويث السمعى والبصرى، ومن ثم: لماذا لا يُحظر تدخين الشيشة فى مثل هذه « الواحات» القاهرية، الضنينة، فما ينطبق على حظر السيارات والدراجات النارية كونها نافثة لملوثات الهواء فى «واحات» المشاه تلك، ينطبق بالضرورة على كل باعثات الدخان، ناهيك من الأبعاد الاجتماعية السلبية لتجمعات التشييش وغير التشييش، أم أن هذا «التطوير»، سيكرر التنازل لتربُّح أصحاب المقاهى وتجار المعسل والتنباك، و«انبساط» البعض على حساب الكل لتتكرر مأساة منطقة المشاة المحيطة بالبورصة؟
ثم، تبقى مسألة تكررت خفتها التى لم تعد تُحتمَل لضررها على الحُكم قبل المحكومين، وهى المبالغات الاحتفالية بافتتاح مشاريع يجرى تضخيمها بضجيج إعلامى غير بصير. صحيح أن الحرب التى يشنها الإجرام على الغالبية العظمى من المصريين ودولة المصريين والمقدرات المصرية، يسقط فيها جنود وضباط وقضاة وأناس عاديون، ولا يراهم ذوو البصيرة العوراء من أدعياء حقوق الإنسان، هذا كله يُمكن أن يدفع إلى نوع من المبالغة فى القول « نحن نعمل ونُنْجِز برغم رصاصات غدركم وتفجيرات خِسَّتكم »، لكن عندما يختل التناسب، يصير رد الفعل سلبيا ومُراكِما للإحباط، وهذا ضار بالناس كما بالحكم، ويفتح ثغرة للمتربصين، وينبغى تحجيمه.
من المؤكد أن هناك نتائج لنجاحات على الأرض يحققها الحُكم، برغم طعنات القتل والتخريب المستمرة، لكننا نريدها نجاحات مستدامة، لا تنتكس بعد حين. ولمناسبة تطوير شارع الألفى تبزغ فى الرأس فكرة، هى أن التجربة لا بد من انتشارها وتوسيع رقعتها على اتساع مصر كلها لا القاهرة فقط، فى نوع من الزحف رويدا رويدا بالجمال على القبح، والجمال عنصر مهم أكثر مما يتصور الرومانسيون، فهو ليس فقط بقادر على إنقاذ العالم من ويلاته، كما قال دوستويفسكى، بل هو أيضا دليل تماسك وصواب كان أينشتاين يعتمده معيارا لصحة النظريات العلمية والمعادلات الرياضية. مرحبا بمزيد من الجمال..
بشرط مراعاة الأولويات ونهج الاستدامة. الاستدامة التى لن أكف عن التذكير بها، قناعةً بيئية، وواجبا أخلاقيا، ومنطق إعمار وتعمير، فى الحاضر الصعب، وللمستقبل الذى لا نريده لمن بعدنا أصعب.