يشبه الشاعر محمد رياض أبطال قصائده، الراكضين «في الشوارع المزدهرة بالنار والهتافات»، «الملوك على الهواء» يقطعون أرصفة المدينة بحثًا عن نار مشتعلة بحب الوطن، ورفقة صاخبة كحانات آخر الليل.
«كانوا هنا فقط من أجل العناق، لكنهم تركوا صورهم على الجدران، تركوا وجوه قاتليهم والكثير من الدماء.. وذهبوا»، هكذا يصف الشاعر الشهداء برهافة، في ديوانه «الخروج في النهار»، الصادر عن دار «ميريت» 2014، يقتفي وقع خطاهم، بحنو بالغ يسجل «الليلي» المولع بالميتات الصاخبة لحظات أولئك الذين أغفلتهم السجلات الرسمية وبرامج المساء، يؤرخ شعريًا لما اعتبر في أوساط عدة، أعظم حراك جماهيري في تاريخ المصريين.
لا يكتفي رياض بإدانة القتلة حاملي الأسحلة والبارود، بل يشتبك بـ«دون كيشوتية» مع «القتلة المأجورين للبرجوازية» بتعبير أنطونيو جرامشي، «مجتمع النخبة المثقفة ومنظري الهلاك والانحلال، لا تنظروا إلينا كي لا تتشقق أرواحنا كالمنازل القديمة، لا تقرأوا أشعارنا أبدا، ولا تحكوا أي شيء عنا، لا تكتبونا، الكتابة بؤس هائل، والهتاف احتفال».
يمكننا استعارة مقولة الشاعر السوري ممدوح عدوان عن الراحل العظيم محمد الماغوط: «انفجر كقنبلة فراغية في الفضاء الشعري»، في توصيف الحالة الشعرية المغايرة التي دشنها رياض في ديوانه الأول، «الخروج في النهار»، ويستكمل مشروعه الشعري بديوانه الموجود قيد النشر «يارا»، وأسعدني حظي بالاطلاع على مسودته النهائية، ليجدد يقيني أن الشعراء ليسوا جميعا مولعين بالبحث عن القصائد تحت أسرة البغايا، ومنشغلين بالتفاصيل اليومية المغرقة في «الأنا» ذات النزوع الشخصي البالغ، بل منهم من يرى أن جوهر الشعر في الانحياز إلى المقولات الكبرى والتعبير عن لحظة عظيمة بالغة الأثر في وجدان الجماهير الجمعي، «كنا ننكمش كالفئران فوق الأرصفة الباردة، وفي الزوايا، وكانت المدرعات تأتي لتدهسنا دون ضجة، فنركض في الشوارع المحايدة، نتعثر في جمجمة تائهة، أو جسد ملطخ بالرعب والدماء».
وأثبت «رياض» دون قصد، أن الضمير الثقافي المصري واعي وحاضر، وذلك في الاحتفاء المستحق بـ«الخروج في النهار»، وطالعنا مقالات تبشر بميلاد شاعر لا تشغله كثيرا مساحة للوجود، قدر اهتمامه بجودة منتوجه الشعري، وكان الناقد يسري عبد الله في مقدمة داعمي الديوان، وأيضا الشاعر محمود قرني، والشاعر على عطا، فيما كان مقال المثقف الكبير علاء الديب شهادة إبداعية فائقة الجمال بحق شاعر ما زال أمامه الكثير ليقدمه إلي الشعر.
وكان لافتا أن تتصدر صورة شهيدة الورد شيماء الصباغ في إحدى صورها الأخيرة والدم ينزف من رأسها ويجلل وجهها الصبوح، فيما يحاول سيد أبو العلا عضو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي حملها في محاولة يائسة لإنقاذها، غلاف جريدة أسبوعية مشفوعة بأبيات من «الخروج في النهار»، «ليست المأساة أن نتألم للشهادة، ونضع شريطا أسود فوق صورة الماضى، ثم نبحر هادئين في برودة الحزن، المأساة أن دما علق في وجوهنا، مثل شارة الحداد، وكل المياه العالم، لن تمحو صورتنا في المرايا، لكنها ستجعل عارنا، أكثر تألقا»، هنا الشعر في الواجهة يتصدر المشهد، لا يقلل من حجم المأساة بالطبع، لكنه يعبر أيما تعبير عن حزن عظيم على مآلات ثورة مغدورة.
ويختتم الشاعر، ديوانه فائق العذوبة «أنا السيد المطلق للحزن، الصموت الذي لا ترهقة الكتابة، ولا تقتله الأوهام، وقد حاربت كواحد من جنودك، وانتصرت، فافتح لي يا أبي، لأعبر إلى حقولك الأخرى، كأمير وسط الحاشية، كملك مترع بالطمأنينة والفرح».