بعد زمن طويل على مقتل هابيل، التقى قابيل في صحراء شاسعة، رآه من بعيد، فقد كانا عملاقان، جلس الاثنان في صمت على الرمال، أشعلا نارًا، وتناولا الطعام، وبقيا صامتين صمت الرجل المتعب في نهاية يوم شاق، التمعت في السماء "نجمة" (لم تكن قد سميت نجمة في ذلك الزمن)
على ضوء النار، رأى قابيل جبهة هابيل، كانت عليها علامة عظمة الحمار التي شج بها رأس اخيه، رمى من يده الخبز الذي كان يوشك أن يضعه في فمه، وسأل أخاه المغفرة
* قال هابيل: - أأنت قتلتني، أم أنا الذي قتلتك؟.. لم أعد اذكر، لا عليك، فها نحن هنا معًا كما كنا من قبل.
- الآن أدركت أنك بالفعل قد غفرت لي، فالنسيان يعني المغفرة، أنا أيضًا سأجرب النسيان.
همس هابيل: نعم.. فاذا استمر الندم، استمر الذنب أيضاً.
لم أحب بورخيس (كاتب أرجنتيني)، لكنني أحببت الكثير من كتاباته، ومن بينها هذه الأسطورة كما اسماها في كتابه "مديح الظلال" الذي يضم مختارات من النصوص المتنوعة بين الشعر والنثر
لم أحب بورخيس بسبب موقفه المنحاز لإسرائيل، لكن كتاباته كانت أكثر منه انحيازا للعدل والتسامح المسلح بقوة النسيان، واكثر عداء للفاشية والعنصرية.
تعبت كثيرا في اختيار موضوع لهذا المقال المطارد بالدم في سيناء والشرقية والفيوم وغرف الإعدام، لم استطع أن أبتعد عن هذا الهم، ولم استطع أن أغوص فيه، والأسوأ أنني لم استطع أن أحدد موقفي من شئ، الموت كله يحزنني، لكنه لن يكون مبررا لإرهاب يستخدم جثث أنصاره في جنى التعاطف المشبوه، ولن يكون ايضا مبررا لقانون يستهدف الردع المفرط، وربما الانتقام المستتر في مناخ من الكراهية البغيضة التي تقسم المشاعر والنفوس بين كل قابيل وكل قابيل!
تذكرت اسطورة بورخيس، التي دربتني على نسيان انحيازه لقابيل الصهيوني، وقربتني من روح التسامح في كتاباته، وهي الروح التي نحتاجها لتجاوز المعضلة المركبة التي تهدد كيان مصر ونسيجها، وتمنع عبورها من صحراء المتاهة إلى واحة المستقبل.
ففى هذه الظلال الغبراء التي نعيش فيها ثمة "آخر" يتوق إلى دمى و يتجرع موتى، إنه بالنسبة لي آخر من الجحيم، وأنا بالنسبة له آخر من الجحيم أيضا، كلانا يتربص بالأخر ويتحين الفرصة. ليت اليوم يكون هو آخر أيام الانتظار والتربص.
غدا سيأتي يوم، ترى فيه "الآخر" جالسًا على مقعد في حديقة، فتدنو منه، وتجلس بجانبه، وتسأله: هل أنا أنت؟!، أم أنت أنا؟!
قد يلومني واحد من السياسيين وأنصارهم الذيين يفرضون علينا صراعا حديا حتى الموت بين يقين ويقين مضاد، ويهاجمني ساخرا: من أنت.، وماذا تريد؟، وماذا تقول في هذه التهويمات الخيالية؟، وينصحني متعاليا بضرورة الارتباط بالواقع!
يعجبني بورخيس هذه المرة عندما يسعفني بالرد: إننا جميعا في أشد الحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضونها علينا أيها الواقعيون!.. طوبى لمن لم يصمم أنه على حق، فلا أحد كذلك، وربما نحن جميعاً كذلك (على حق)، لكن كلانا يجب أن يحترس، إذا زرت متحفًا وأعجبك خنجر قديم؛ لا تفرح به كثيرا، انتبه لحياتك، فالخنجر الذي سبق له أن قتل "آخرين" من قبل، قد تتحرك فيه شهوة الدم، ويشحنه تاريخه القديم بدافع ما، ليقتلك أنت…
إن الموت الذى يرتعد منه لحمنا، هو نفسه ذلك الموت الذي نتمناه للأخر، فمتى أشعر أنا كما تشعر أنت؟، ومتى تشعر انت بما أشعر؟، متى يعود الشخص الذي انقسم وانكسر وتشظى إلى أشخاص كثيرين متخاصمين ليصبح شخصاً واحداً؟، أليست كآبتنا واحدة، وعذابنا واحد، ودمنا واحد؟
لماذا إذن عظمة الحمار ياقابيل؟
لا أقصدك أنت بالتحديد، بل أقصد كل قابيل يسكنني أو يسكنك
قد تقول: أنت السبب، وأرد عليك بمثل ماتقول، ويصعد جبل العناد سدا بيننا، وترتفع حنجرة الدم في صياح شامت: للزمن الانتصارات، وللإنسان الهزائم.
قد يبسط قابيل يده ليقتل، فلا تبسط أنت يدك يا هابيل الذي يسكنني ويسكنك، طوبى لمن يغفر للآخرين ولنفسه، طوبى لذوي القلوب الرحيمة، لأن سعادتهم في ممارسة الرحمة لا في انتظار الجزاء، طوبى لمظلوم يفقتد العدالة، طالما ظل ينتصر للعدل على حساب مصيره الفردي، لا تكره عدوك لأنك إن فعلت فسوف تصير بطريقة ما عبداً لهذه الكراهية، لا تبالغ في عبادة الحقيقة، فأنت (ونحن جميعا) نأتي في نهاية كل يوم وقد كذبنا عدة مرات، وتشدقنا بما يبرر هذه الأكاذيب، لا تقسم أنك على حق فكل قسم مبالغة.
أنا لا أتحدث عن الانتقام أو المغفرة؛ أنا أوصي بالنسيان، فهو الانتقام الوحيد والغفران الوحيد، أن تتسامح مع عدوك، فهذا عدل ممكن ومستطاع؛ أما أن تحبه فذلك من عمل الملائكة لا البشر، وأنا أكتفي بأن نكون بشرا لا ملائكة.. أكتفي بطلب التسامح والنسيان.. لنعود إلى الحياة معا، مهما كان الخلاف، ومهما كان الغضب.. في الحياة متسع لي ولك أيها "الأخ".. أيها "الأخ.......ر"
* اللغة والمفاهيم وبعض العبارات مستوحاة من عوالم خورخي بورخيس