x

عبد المنعم سعيد دليل المواطن الذكى لحل المعضلة البيروقراطية عبد المنعم سعيد الإثنين 18-05-2015 21:05


قيل إنه يمكنك زراعة البرتقال فى أيسلندا إذا كنت مستعدا لدفع الثمن. البرتقال كما هو معلوم يحتاج لمناطق دافئة، وتربة من نوع معين، وكلاهما مفتقد تماما فى دولة أيسلندا التى هى صندوق كبير من الثلج، بل إن ترجمة اسمها تعنى «أرض الثلج». زراعة البرتقال فى هذه الحالة تحتاج نقلا للتربة، فتدفع للتربة والنقل، وبعدها تدفع فى خيمة زجاجية أو أى نوع من العوازل، ثم تضبط الحرارة على الدرجة الملائمة لزراعة البرتقال، ويمكنك أيضا أن تحدد درجة الضغط الجوى وحالة الأكسجين والنيتروجين، حتى تحصل على البرتقالة التى تريدها تماما، طالما أنت قادر على الدفع. يمكنك أيضا أن تختصر زمن الكثير من المشروعات، ولا أستغرب شخصيا ما يقوم به الرئيس السيسى عندما تأتى له مشروعات مثل الطرق أو قناة السويس أو زراعة الأرض، فيقرر فورا أنه يمكن إنجازها خلال ثلث المدة المقررة.

المسألة هنا بسيطة وهى أن تجعل العمل ثلاث ورديات بدلا من وردية واحدة كل منها 8 ساعات عمل؛ معنى ذلك منطقيا أن تكلفة العمل فقط سوف تزيد مرتين عما كان مقدرا لها، ويمكنك أن تنفذ نفس المبدأ على المعدات المطلوبة وسرعات استهلاكها، والتغذية المطلوبة للبشر بالغذاء والمعدات بالكهرباء، وهكذا من الأمور المنطقية. القضية الوحيدة هنا هى التكلفة، وهذه يمكن حلها كما فعلنا فى مشروع حفر القناة الجديدة التى تمت عن طريق الشعب المصرى بشراء شهادات للاستثمار؛ وفى المشروعات الأخرى كل ما علينا فعله هو أن نحولها إلى شركات مساهمة، يتم تمويل أرباح أسهمها من بيع الخدمة أو السلعة التى سيقدمها المشروع.

كل ذلك ممكن إذا ما عرفنا الحفاظ على معادلة المشروع والزمن والتكلفة؛ لكنك يمكنك أن تفعل كل ذلك ولا يتم إنجاز شىء على الإطلاق، ليس فقط لأن البيروقراطية سوف تقف فى وجهك، وإنما لأنها غير قادرة على إنجاز المشروع، وهذا ما لا يضعه أحد فى الحسبان. حدث لى ذلك شخصيا عندما توليت إدارة مؤسسة قومية عريقة، وكان الحماس عارما لكى تتحقق انطلاقة كبرى تعيدها إلى مجدها التليد. خلال شهور قليلة كان هناك حوالى 112 مشروعا لتحقيق النهضة، بعضها كبير بالملايين- الدولارات- وبعضها الآخر بالآلاف من الجنيهات المصرية. فيها تحولت الفكرة إلى مشروع، والمشروع إلى قرار حائز على موافقة مجلس الإدارة، وتحديد المسؤولين عن المهمة وإنجازها. مضت شهور، واكتشفت أن لا شىء يتحرك على الإطلاق، فبدأت رحلة البحث عن الحقيقة؛ لماذا لا يحدث الإنجاز طالما توافرت الموارد المالية والموافقات القانونية؟ ما وجدناه كان مجموعتين من الأسباب: الأولى نفسية روتينية، فالبيروقراطية تعتقد أن «الغربال الجديد له شدة»، وبعد فترة ليست طويلة سوف ينصرف المسؤول إلى مشروع آخر، أو أنه سوف يدرك أن شيئا لن يحدث فى كل الأحوال فتضيع الهمة وينتهى الحماس؛ وما لم تحدث كارثة فإنه سوف يبقى على هذا الحال، أما إذا حدثت فسوف يذهب وتأتى قيادة جديدة تمر بهذه الدورة من أول الطريق.

المجموعة الثانية أكثر أهمية، لأن المجموعة الأولى يمكن التغلب عليها بأن تشعر البيروقراطية بأن حماس المسؤول ليس مؤقتا وإنما هو جزء من تركيبته الجينية التى جعلته يتحمل المسؤولية. هذه المجموعة أساسها أن البيروقراطية لا تقدر، فعندما جرى البحث عن النقاط التى يجرى عندها وقف المشروع وجدنا إدارتين: الإدارة القانونية، وإدارة المشتريات، الأولى لأنها هى التى تقوم بإبرام العقود الخاصة بالمشروع، والثانية هى التى تعقد المناقصات الخاصة به، وشراؤها وفقا للقوانين المرعية. على الورق كان فى الإدارة القانونية للمؤسسة 60 محاميا؛ ومثلهم وربما أقل قليلا فى إدارة المشتريات.

وأذكر أننى كنت فى زيارة للولايات المتحدة وذكرت فى معرض حديث رقم المحامين السابق أن علق أحد الأمريكيين قائلا: هذا أكثر من عدد المحامين الذين يعملون تحت قيادة رئيس مجلس إدارة شركة جنرال موتورز الأمريكية !!. استخدمت ما سمعته مع السيد مدير الإدارة القانونية فكانت إجابته أن العدد صحيح، ولكن من منهم يعرف شيئا عن القانون ويمكن الاعتماد عليه لا يتعدى عشرة، وهؤلاء أربعة منهم يعملون فى قضايا النشر، والأربعة الآخرون فى قضايا المؤسسة مع العملاء، واثنان لكل شىء آخر. ولكن المهم أنه بين هذا العدد لا يوجد محام يستطيع إبرام العقود باللغة الإنجليزية فى مؤسسة يوجد حجم غير قليل من المعاملات مع مؤسسات خارجية. لم يختلف الأمر كثيرا مع إدارة المشتريات، فمن يعرفون قلة قليلة، وهؤلاء بالكاد أنجزوا 14 مناقصة فى العام السابق، والآن يطلب منهم إجراء 39 مناقصة خلال بضعة أشهر، مستحيل أن يفعلوا ما هو مطلوب منهم مهما كانت أركان المعادلة المذكورة عاليه كاملة ومتكاملة.

كان دش الثلج ثقيلا، وما جرى عمله بالفعل لتجاوز هذه العقبات ليس موضوعنا، ولكنه يعيدنا إلى مشكلتنا الأصلية وهى الإجابة على السؤال: لماذا توجد الكثير من المشروعات، ومع ذلك لا نرى أثرا لها فى الواقع حتى مع التسليم أن لا شىء يحدث بين يوم وليلة، ولكن المتوقع أن يحدث شىء عندما يكون الأمر أياما وليالى وأسابيع وشهورا وأحيانا سنوات؟ فالحقيقة أن البيروقراطية لا تريد، وإذا أرادت فإنها لا تستطيع، والأخطر أنها سوف تحارب بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة كل من يأتى ويريد ويستطيع.

ولكن التجربة تعطينا دليلا على إمكانية حل هذه المعضلة البيروقراطية من خلال إجراءات: أولها أنه لا مفر من الاستعانة بالخبرات الناقصة فى المنظومة القانونية والتجارية المتاحة من خارج المؤسسة؛ فبدون هؤلاء فإن كل المشروعات التى تستدعى هذه الخبرات سوف تتوقف، وسوف تعرف البيروقراطية كيف تغطى على عدم الإنجاز بالحديث واختراع مشروعات جديدة، على الورق بالطبع. وثانيها أن الميكنة الكاملة هى خطوة كبيرة على الطريق، وفى المؤسسة المذكورة أعلاه فإن عدد الذين كانوا يجيدون التعامل مع الكمبيوتر لم يكن يتعدى 10٪ من العاملين، ولا شىء يمكن أن يحفز البيروقراطية على التعلم إلا حوافز جديدة مالية يمكن أن تضاف إلى تكلفة المشروع، ولكنها سوف توفر الكثير من تكاليف المشروعات التالية، والأهم أنها سوف تخلق تغييرات أساسية فى نظم العمل والمحاسبة والمتابعة، خاصة لو تم إدخال وسائل التوقيع والدفع الإلكترونى. وثالثها التركيز على القيادات، فلا توجد ميكنة ما لم تكن القيادات مستعدة للتعلم ويكون ذلك داخل مؤسسات متخصصة بحيث لا تكون المسألة ليس فقط فى تغيير الآلات، وإنما فى طريقة استخدامها وإدارتها للمشروعات. ورابعها أن تكون كل عمليات التطوير والتحديث جزءا من مشروع عام لتغيير المؤسسة، يكون للبيروقراطية مصلحة فيه، سواء من حيث زيادة الحراك الوظيفى أو العائد المادى.

لقد قيل إنه لا يوجد غذاء بالمجان، وكذلك فإنه لا توجد مشروعات قومية أو غير قومية ما لم تكن البيروقراطية أو البشر عامة على استعداد للتعامل معها. وإذا لم يعجبك الدليل الذكى السابق للتعامل مع البيروقراطية فربما آن للحكومة أن تترك أمر المشروعات الكبرى فعليا للقطاع الخاص.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية