x

توفير الدماء ينقذ الأرواح وينطوى على مخاطر

الأحد 17-05-2015 17:48 | كتب: بوابة الاخبار |
التبرع بالدم أصبح ممكنا من أصحاب الفئات المغايرة التبرع بالدم أصبح ممكنا من أصحاب الفئات المغايرة تصوير : آخرون

في عام 2009، كان أحد المستشفيات الكبرى في كاليفورنيا يبحث عن طرق لخفض التكاليف. وفي ذلك العام، سلك مستشفى ستانفورد وعياداته الطريق الصحيح لشراء أكياس دماء بقيمة 6.8 مليون دولار أمريكي لأغراض نقل الدمّ، لكنّ عددًا متزايدًا من الأدلة أشار إلى أن الأطباء يمكنهم في معظم الأحيان أن يتخلّوا عن هذا الإجراء.

تَرَتَّب على ذلك، بدءًا من يوليو 2010، أنه كلما استخدم طبيبٌ نظام المستشفى الحاسوبي لطلب الدمّ، دعت الحاجة إلى الاستعانة بأحدث نتائج فحوص المريض المختبرية؛ وإذا أشارت الأرقام إلى تمتع هذا الفرد بالقدرة الصحية على تجاوز الحاجة إلى نقل الدمّ؛ فستظهر رسالة تنبيه على الشاشة، كي تذكِّر الطبيب بلطف بالإرشادات التوجيهية، وكي تطلب أيضًا السبب وراء هذا الطلب.

كانت النتائج، التي نُشرت بالتفصيل في بحثين خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية دراماتيكية؛ حيث انخفض عدد عمليات نقل الخلايا الحمراء بنسبة %24 في الفترة من 2009 حتى 2013، مما ساعد على توفير 1.6 مليون دولار تقريبًا من تكاليف الشراء وحدها. ومع تراجع معدّلات نقل الدمّ، انخفضت أيضًا معدّلات الوفيات، ومتوسط مدة الإقامة في المستشفى، وأعداد المرضى الذين هم بحاجة إلى إعادة التوجه إلى المستشفى خلال 30 يومًا من تاريخ نقل الدمّ. وعندما طُلب من الأطباء بكل بساطة أن يفكروا أكثر من مرة في عملية نقل الدم، لم ينجح المستشفى في تقليل النفقات فحسب، بل حسَّن نتائج المرضى أيضًا.

تُعتبر إجراءات نقل الدمّ من العمليات الشائعة، في الدول المتقدمة على أقل تقدير. ففي عام 2011، نقَل الأطباء في الولايات المتحدة 21 مليون وحدة من الدمّ ومشتقاته؛ وفي المملكة المتحدة، وصل الرقم إلى قرابة 3 ملايين وحدة. وعلى الرغم من أن عمليات نقل الدمّ قد تنقذ الحياة، فإنها كثيرًا ما تكون غير ضرورية، وربما تكون ضارّة في بعض الأحيان. وفي هذا.. يقول ستيفن فرانك، طبيب تخدير ومدير برنامج إدارة بنك الدم في جهاز جون هوبكنز الصحي في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند: «أعتقد أننا تعرضنا لنوع من غسل المخ، لكي نظن أن الدمّ ينقذ الأرواح، وأنه كلما نقلْتَ المزيد؛ كان الأمر أفضل؛ لكن الرؤية تغيرت 180 درجة، وبتنا نرى الأن أنه كلما قل معدل النقل؛ كان هذا أفضل».

ينصح العلماء الآن باتباع نهجًا أكثر تحفظًا عند نقل الدمّ، لكن تغيير عقود من الممارسة الطبية الراسخة ليس بالأمر السهل. وحتى عندما تكون الإرشادات التوجيهية واضحة، تشير الدلائل إلى أن الأطباء غالبًا ما يفشلون في اتّباعها. ومن ثم، «ستكون محاولة فطام الأطباء عن علاقة الحب التي تربطهم بنقل الدمّ أصعب مما نعتقد»، حسبما يرى إيان روبرتس، مدير وحدة التجارب الإكلينيكية في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي.


انطلاق مسيرة نقل الدم

بعد فقدان كمية كبيرة من الدمّ ـ بالإضافة إلى حالات الإصابة، التي تتراوح بين اللوكيميا ونقص الفيتامينات ـ قد تُترك أنسجة الجسم محرومة من الأكسجين. ونقل خلايا الدمّ الحمراء التي نجمعها من متبرعين متفقين في فصيلة الدم يهدف إلى عكس هذه الحالة وإمداد الأنسجة بالأكسجين. من الممكن أن يتلقى بعض المرضى مكونات الدمّ الأخرى، مثل الصفائح الدمّوية، التي تساعد على تخثّر الدم، لكن عمليات نقل الخلايا الحمراء هي الأكثر شيوعا إلى حدّ بعيد في وقتنا هذا.

استهل العلماء والأطباء مسيرة عمليات نقل الدم منذ القرن السابع عشر على الأقل، لكن هذا الإجراء لم يصبح روتينيًّا إلا في بدايات العقد الأول من القرن العشرين، بعد أن توصل الباحثون إلى فصائل دم مختلفة، وتعلموا طرق حِفظ الدمّ المُتبرَّع به. أما بنوك الدم، فقد برزت على الساحة بالفعل خلال الحرب العالمية الثانية. ففي بريطانيا، جابت فرق جمع الدمّ جميع أنحاء البلاد، واخِزَةً أذرع المواطنين؛ لمساعدة الجنود في الخطوط الأمامية. وقتذاك، انتشر ملصق إعلاني يحمل عبارات محددة، مثل: «هل ستساعدنا وتتبرع بقليل من دمائك؟ أنت وحدك مَن يقرر إنقاذ جرحانا» ومع نهاية الحرب، لبَّى ما يزيد على 750 ألف شخص النداء، وتبرع البعض سبع أو ثماني مرات.

في العقود التي تلت الحرب، ذاع طلب التبرع بالدمّ في الانتشار، لا سيما في أوقات الحرب، أو الكوارث، وطبَّق كثيرون عمليات نقل الدمّ على نطاق واسع، دون تدقيق علمي صارم. وفي ذلك الوقت، لم تكن التجارب المُضبطة العشوائية إجراءً قياسيًّا، وبدا الأساس المنطقي لنقل الدمّ مقنعًا. يقول روبرتس: «أعتقد أن الناس اعتبروا نقل الدمّ أمرًا مسلَّمًا به، فرأوا أنه مما لاشك فيه أنه إذا فقد الناس الدمّ، فلا بد أنهم سيحتاجون إلى دم يعوضهم عن الكمية المفقودة».

وفي ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، أثارت مجموعة من العوامل التركيز على الحد من عمليات نقل الدمّ، إذ أدى اكتشاف التهاب الكبد الفيروسي سي، وفيروس نقص المناعة البشرية ـ اللذين ينتقلان عن طريق الدم ـ إلى إثارة مخاوف مرتبطة بسلامة نقل الدمّ؛ كما أدّت زيادة نشاط الكشف عن الأمراض المعدية إلى زيادة تكلفة جمع الدمّ، كما نتج عن تشديد معايير المسح تَرَاجُع معدلات التبرع بالدمّ. وبدأ بعض الأطباء في التساؤل عمّا إذا كان بوسعهم تدبّر الأمر بالتبرعات الأقل، أم لا.

في عام 1994، أطلق فريق من الباحثين الكنديين دراسة لتقييم كيفية استجابة المرضى إلى نهج التقليل من عمليات نقل الدمّ. عادةً ما يقرِّر الأطباء الاحتياج إلى نقل الدمّ بقياس معدّل هيموجلوبين المريض، المعروف بأنه البروتين الذي يوجد ضمن خلايا الدمّ الحمراء، والذي يحمل الأكسجين. وتحدّد منظمة الصحة العالمية مستوى الهيموجلوبين الصحي بأنه 13 جرامًا لكل ديسيلتر من الدمّ (g dL−1) أو أكثر عند الرجال، و12 جرامًا لكل ديسيلتر عند النساء. وعلى مدار التاريخ، يلجأ الأطباء إلى نقل الدمّ عند انخفاض هيموجلوبين المريض إلى ما دون 10 جرامات لكل ديسيلتر، وهي الفرضية التي اقترحها بحث
نُشر في عام 1942.

تحقَّق الفريق الكندي الذي قاده بول هيبير، باحث علم الأوبئة وأخصائي رعاية الحالات الحرجة من هذا المستوى على نطاق واسع. فقسَّم الباحثون 838 مريضًا من مرضى العناية المركزة عشوائيًّا إلى مجموعتين؛ بحيث يخضع المرضى في إحداهما لنقل الدمّ، إذا انخفضت مستويات الهيموجلوبين لديهم إلى ما دون 10 جرامات لكل ديسيلتر، ويخضع مرضى المجموعة الأخرى لنقل الدمّ إذا انخفضت مستويات الهيموجلوبين لديهم إلى ما دون 7 جرامات لكل ديسيلتر.

بعد 30 يومًا، خضع جميع أفراد المجموعة الأولى لنقل الدمّ، بمعدل 5.6 وحدة من خلايا الدمّ الحمراء. وتشير الوحدة إلى كمية الدمّ المتبرَّع به. أما مرضى المجموعة الأكثر انضباطًا، فبلغ متوسط نقل الدم 2.6 وحدة فقط، ولم يتلق ثلث أفراد المجموعة نقل دم على الإطلاق.

ومع ذلك.. بقي احتمال الوفاة في المجموعتين عند مستواه. وعندما حلل الباحثون مجموعتين فرعيتين من المرضى (مجموعة تضم فئات عمرية تقل عن 55 عامًا، وأخرى تضم الذين يعانون من أمراض أقل خطورة)؛ وجدوا أن نهج تقييد عمليات نقل الدم حدّ بالفعل من الوفيات.

يتذكر هيبير ـ الذي يشغل حاليًّا منصبًا في جامعة مونتريال الكندية ـ أنه «عندما شاهدنا النتائج، كان أول سؤال طرحته على الخبير الإحصائي: هل أنت متأكد من أن توزيع المجموعات كان صحيحًا؟ بعد ذلك.. شرعنا في التحقق من كل النتائج التي توصلنا إليها، لأننا لم نصدقها صراحة».

نشر الفريق نتائج دراسته في دورية نيو إنجلاند جورنال أوف مديسين
New England Journal of Medicine عام 1999. يقول لورانس تيم جودنوه، مدير برنامج طب نقل الدم وخدماته في مركز جامعة ستانفورد الطبي: كانت مجرد تجربة وحيدة، لكنها استحوذت على اهتمام الناس. إن «الجميع رأوه وقالوا إننا نحتاج إلى إعادة التجربة في أوساط إكلينيكية أخرى».

نُشرت
– في الفترة ما بين 2007 حتى 2014، على الأقل ست تجارب عشوائية كبيرة أخرى، تقارن كل منها بين الإرشادات التوجيهية المُقيّدة، وتلك المتساهلة. وانطوت هذه التجارب على مجموعة كبيرة من الحالات، بدءًا من حالات الإصابة بالصدمة الإنتانية، وإصابات دماغية رضيّة، حتى نزيف الجهاز الهضمي، فضلًا عن أطفال في العناية المركزة، وبالغين ممن خضعوا لجراحة القلب وكبار السن الذين خضعوا لجراحة مفصل الورك. وكشفت الدراسات الست أن المرضى تحسّنوا بطريقة جيدة تمامًا، وأحيانًا بطريقة أفضل، عندما استخدم الأطباء مستويات أقل من الهيموجلوبين.


ممارسات طبية خطرة

يحاول الباحثون الآن أن يفهموا لماذا لا يحقق نقل الدمّ الفوائد المرجوة منه دومًا. قد يعود هذا إلى أن مستويات الهيموجلوبين ليست المؤشر الجيد الذي يهتم به الأطباء حقًّا، حيث إنهم يهتمون بحصول الأنسجة بالفعل على كمية أكسجين كافية؛ أو قد يعود ذلك إلى أن كميات الدماء المنقولة إلى الأفراد لا تؤدي وظائفها بصورة صحيحة.

تتميز خلايا الدمّ الحمراء الطازجة بمرونتها وسهولة تدفقها عبر أصغر الشعيرات الدمّوية في الجسم، ولكن بعد بضعة أسابيع في بنك الدمّ، تتيبَّس أغشيتها، وتغير الخلايا شكلها، وتصبح أكثر لزوجة، وترتبط أكثر بالأكسجين. يمكن لهذه التغيرات المعروفة باسم «آفة التخزين» أن تجعل خلايا الدمّ الحمراء أقل فعالية. «وهذا قد يفسر ما الذي يجعل ما يُعرف «بهبة الحياة» عديم الفائدة للمرضى»، حسب قول جودنوه. وأسفرت الأبحاث عن نتائج متضاربة بشأن ما إذا كانت آفة التخزين تسيء بالفعل إلى حالة المرضى، أم لا، ولكن من المتوقع ظهور نتائج تجربة عشوائية كبيرة في وقت لاحق من هذا العام.

ليس لنقل الدمّ نتائج غير مؤكدة فحسب، بل إنه ينطوي على مخاطر أيضًا، حيث إنه بإمكانه نقل الأمراض المعدية، وإعاقة وظائف القلب، وإلحاق الضرر بالرئتين؛ كما يمكنه أن يعيث فسادًا في الجهاز المناعي. يقول فرانك إن «نقل الدمّ مثله مثل عملية زراعة الأعضاء، حيث يحل نسيج شخص آخر محل نسيج الشخص المصاب». يستطيع الأطباء أن يقوا المريض من أكثر الاستجابات المناعية تدميرًا، عن طريق ضمان تطابق بروتينات وكربوهيدرات المانح مع الطرف المتلقِّي، المعروفة باسم المستضدات المميزة لفصائل الدم ABO وRh. وتحتوي خلايا الدمّ على عديد من المستضدات الأخرى، ويمكن لعدم التطابق أن يثير الاستجابات المناعية التي تتراوح بين الخفيفة والقاتلة.

من المفارَقات أن نقل الدمّ يمكنه أن يضعف الاستجابة المناعية، ويترك المرضى أكثر عرضةً للعدوى، ولكن الآلية وراء إصدار هذه الفرضية لا تزال غير مؤكدّة.

ربما تكون هذه المخاطر قد مرَّت دون أن ينتبه إليها أحد، لأن رصدها ليس سهلًا في سياق الممارسة اليومية. فكثيرون ممن يخضعون لنقل الدمّ يعانون بالفعل من أمراض خطيرة، وحالات العدوى شائعة جدًّا في المستشفيات. وتتضح المخاطر المرتفعة التي ترافِق عمليات نقل الدمّ فقط عندما يحلّل العلماء عددًا كبيرًا من مجموعات المرضى.

مما لا شك فيه على مستوى بعض المرضى، خاصة هؤلاء الذين يفقدون كميات دم كبيرة بسرعة أن عمليات نقل الدمّ تنقذ حياتهم. ففي دراسة نُشرت في العام الماضي
، وجد روبرتس وزملاؤه أن عمليات نقل الدمّ كانت مفيدة فقط من أجل أولئك الذين يعانون من الإصابات الحادة، وأنها زادت بالفعل من عدد وفيّات هؤلاء الذين يعانون من إصابات خفيفة. ولم يتحدّد تمامًا الموضع الذي يجب أن يرسم الخط الفاصل فيه؛ فمثلًا، لم تجرَ بعد أيّ تجارب عشوائية كبيرة، لاختبار ما إذا كانت مستويات الهيموجلوبين الأكثر انخفاضًا تلائم المرضى المصابين بالنوبات القلبية أو السكتات الدمّاغية، أم لا.

أما في يناير، فقد توصل العلماء ـ بشكل غير متوقع ـ إلى أن استراتيجيات نقل الدمّ المتساهلة تسفر عن نتائج أفضل بين الأفراد الذين يخضعون لجراحة للسرطان
. أما تعقيدات الأمراض الفردية، وعوامل الخطورة، فتعني أن الأطباء لا يزالون في حاجة إلى إصدار قرارات فحوصهم الإكلينيكية عندما يقرون احتياج المريض إلى نقل دم، أو عندما يرفضون ذلك. ومع ذلك.. يقول الخبراء إنه من الواضح أن هناك مرضى كثيرين خضعوا لعمليات نقل دم، لا لزوم لها. ومن ثم، صار الوضع مثلما يصفه روبرتس «هناك بعض المرضى الذين سيموتون من دون نقل الدمّ، وهناك مَن سيموتون بسبب نقل الدمّ».


بدأ النهج المُحافِظ يلقى قبولًا بين الأطباء. ويوصي عدد متزايد من الجمعيات الطبية والهيئات المهنية الآن باعتماد مستويات الهيموجلوبين التي تتراوح قيمتها بين 7 – 8 جرامات لكل ديسيلتر، وبدأت المستشفيات في تنفيذ استراتيجيات الحدّ من احتمالات احتياج المريض إلى نقل الدمّ في المقام الأول. ويلجأ الأطباء إلى وصف مكمّلات الحديد للمصابين بفقر الدم،ّ الذين من المقرر خضوعهم لعمل جراحي اختياري، وإلى تقليل كمية الدمّ المطلوبة للفحوص المعملية، وإلى استخدام تقنيات «إنقاذ الخلية» التي تجمع الدمّ الذي يفقده المريض أثناء الجراحة، وتعيده إلى الجسد مرة أخرى. ولطالما استُخدِمت تدابير كثيرة في علاج «شهود يهوه» الذين يعترضون على عمليات نقل الدمّ لأسباب دينية. والآن، يجري تطبيقها على مجموعات أكبر من المرضى.

يقول أرييه شاندر، المدير الطبي التنفيذي لمعهد إدارة عمليات نقل الدم للمرضى والطب والجراحة اللادموية في مستشفى إنجلوود الطبي، ومركزها في نيوجيرسي: «إننا نرى أعدادًا متزايدة من البلدان القادمة نحو هذا النهج، حيث تطلب المساعدة في إعداد برامج إدارة عمليات نقل الدمّ».

كانت هولندا في طليعة هذه الدول. ففي عام 2000، اعتمدت 6.4 جرام لكل ديسيلتر كحد أدنى لنقل الدمّ على مستوى المرضى الأصحاء، وأبلغ أحد بنوك الدمّ عن انخفاض في عمليات نقل الدمّ بنسبة %12 مع حلول عام 2009. وأدَّت التغييرات في برامج إدارة عمليات نقل الدمّ، والإرشادات الإكلينيكية الجديدة، والتحول نحو التقنيات الجراحية الأقل استخدامًا للمَباضِع، إلى انخفاض معدل نقل الدم في بلدان أخرى عديدة. ففي المملكة المتحدة مثلًا، تراجع الطلب على خلايا الدمّ الحمراء بمقدار الخُمْس بين عامي 1999- 2012. وفي الولايات المتحدة، انخفض عدد الوحدات المنقولة من الدمّ الكامل وخلايا الدمّ الحمراء بنسبة %8، بين عامي 2008:2011، وهي آخر سنة تتوفر بيانات عنها. وتتوقع منظمة (AABB)، المعروفة سابقًا بالجمعية الأمريكية لبنوك الدمّ، أن الإحصاءات التي ستصدر في وقت لاحق من هذا العام ستُظْهِر تراجعًا إضافيًّا بنسبة %10. ومنذ عام 2001، تراجعت نسبة المستشفيات الأمريكية التي اضطرت لإلغاء العمليات الجراحية الاختيارية بسبب نقص الدمّ تراجعًا متزايدًا.

يعتقد البعض أن الوقت قد حان ليتوقف المتبرعون عن التشمير عن سواعدهم. وربما لا يزال هناك نقص في بعض المناطق، أو في أعقاب الكوارث الكبرى، ويتوقع الأطباء استمرار الحاجة إلى بعض أنواع الدمّ ومكوناته، مثل الصفائح الدمّوية، التي لا يستمر تخزينها طويلًا، لكن لا يزال هناك مجال كبير لإنقاص الطلب، حسبما ترى ميريام ماركوفيتز، الرئيسة التنفيذية لجمعية (AABB). وأظهرت مراجعة
أُجريت في عام 2011 لأكثر من تسعة آلالاف عملية نقل دمّ في المملكة المتحدة مثلًا، أن أكثر من نصف هذه العمليات كان تجنُّبه ممكنًا.

إن مجرّد تغيير التوصيات الإكلينيكية قد لا يكون كافيًا. «فغالبية الناس لا يعيرون المبادئ التوجيهية اهتمامًا»، حسب قول فيكتور فيراريس، جراح القلب والصدر في جامعة كنتاكي في ليكسينجتون. وقد يكون هذا صحيحًا بشكل خاص عندما يبدو أن الإرشادات التوجيهية تتناقض مع خبرة الرصد المباشر، حيث يرى فيراريس أن «الجراحين يعتمدون على الخبرة والتجربة إلى درجة كبيرة جدًّا، وأن كل جراح عاش في أي وقت كان شاهدًا على حياة شخص ما ينقذه نقل الدمّ».

توضّح دراسة نُشِرت في أكتوبر الماضي هذا التحدّي. فعندما أجرى العلماء مسحا على الأطباء العاملين في وحدتي العناية المركزة في مستشفى جونز هوبكنز، أفادت الغالبية العظمى من الأطباء أن المستويات المثالية لنقل الدمّ كانت 7 جرامات لكل ديسيلتر، ولكن السجلات الطبية الإلكترونية في المستشفى كشفت أن %84 من المرضى في إحدى الوحدتين، و%92 في الوحدة الأخرى، خضعوا لعمليات نقل الدمّ، قبل أن تنخفض مستويات الهيموجلوبين لديهم إلى ذلك الحدّ. يقول ديفيد ميرفي، مؤلف الدراسة الرئيسي، وأخصائي رعاية الحالات الحرجة في جامعة إيموري في أتلانتا بولاية جورجيا، إن بعض الأطباء اعتبروا حالة مرضاهم لا تسمح لهم بالانتظار حتى بلوغ حد الهيموجلوبين الأدنى، وأن هذا المؤشر لا ينطبق عليهم. توصَّل ميرفي وزملاؤه أيضًا إلى أن الأطباء يعرفون عمومًا بالمستويات الموصي بها، لكن كان هناك عدد كبير من الممرضات لا يعرفونها، كما لم يكن هناك نهج موحّد لاتباعه في الوحدات، ونادرًا ما ناقش مقدمو الرعاية استراتيجية نقل الدمّ لكل مريض على حدة. ويفيد مورفي أنه إذا حام غموض بشأن ما ينبغي فعله تجاه المريض، فسيؤثر هذا إلى حدّ كبير على قدرتك على تقديم الرعاية الصحيحة».

من الممكن التغلب على هذه المشكلات، كما أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد (انظر: «تعليمات الطبيب»). ففي العام السابق لبدء رسائل التنبيه الحاسوبية، أجرت المستشفيات ما يزيد قليلًا على نصف عمليات نقل الدم لمرضى، مستويات الهيموجلوبين لديهم تتجاوز 8 جرام كل ديسيلتر. وبحلول عام 2013، انخفضت هذه النسبة إلى ما دون %30. يذكر جودنوه صاحب أول ورقتين بحثيتين احتويتا على نتائج الدراسة
،
أن هذا التراجع كان مباشرًا.

ويعتقد أن التدخّل البسيط نجح لأسباب متعددة؛ أحدها، يتمثل في الأطباء، الذين قد يغيرون سلوكهم عندما يعتقدون أنهم تحت المراقبة، لكن رسائل التنبيه الإلكتروني ذكّرت الأطباء أيضًا بالإرشادات التوجيهية، وزوّدتهم بروابط إلكترونية للأدبيات ذات الصلة، كما أجبرت الأطباء على التمهّل والتفكير، بدلًا من الركون إلى الإجراء القياسي الانعكاسي الراسخ منذ فترة طويلة.

وفي الختام، من المحتمل أن يكون مقدمو الرعاية قد حصلوا على فرصة مناقشة احتياجات كل مريض على حدة. ويقول جودنوه: «قد يتمكن طبيب تحت التدريب طُلِب منه إحضار كمية من الدم من أن يعود إلى الفريق الطبي، ويقول: «ألزمني الحاسب بذكر السبب»»، ثم فليناقشوا السبب بعدها. ولا شك أن الأطباء قد يَخْلُصوا إلى طلب نقل الدم على أية حال، لكنهم ربما يتوقفون ويفحصون الأدلة، حتى يتفقوا مع رسالة جودنوه الواضحة، وهي أن «نقل الدم الأكثر أمانًا هو الدم الذي لم يُعط».

هذا المحتوى ينقل عن مجلة «نيتشر» الطبعة العربية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية