x

علاء الديب «الإمبراطور».. وعصفور النور! علاء الديب السبت 16-05-2015 22:06


قطع الإرسال، وأعلن راديو طوكيو أن «الإمبراطور» سيتكلم ليعلن بنفسه هزيمة «اليابان»:

«جلس الكبار حول أجهزة الراديو يبكون، وتجمع الأطفال خارج منازلهم فى الطريق الترابى يتهامسون فى ارتباك وحيرة: كنا مضطربين مشوشين محبطين، لأن (الإمبراطور) قد تكلم بصوت بشرى لا يختلف عن صوت أى آدمى، لم يفهم أحد ما كان يقوله، لكننا جميعاً سمعنا صوته، بل استطاع أحد أصدقائى أن يقلده بمهارة، أخذنا نضحك ونحن نحيط به: طفل فى الثانية عشرة فى بنطلون قصير متسخ يتكلم بصوت (الإمبراطور)، بعدها بدقيقة شعرنا بالخوف، نظر بعضنا لبعض ولم ينبس أحد ببنت شفة، كيف يمكن أن نصدق أن تلك الحضرة العلية المهيبة المقدسة قد أصبحت كياناً بشرياً عادياً فى يوم صيف مشهود».

أغسطس 1945، كاتب هذه الكلمات هو «أوى كنزابورو» صاحب رواية «هموم شخصية» (1964) اليابانى الثانى الذى يحصل على جائزة نوبل فى الأدب (1994)، أوى وهو اللقب واسم العائلة: من مواليد يناير 1935: أى أنه وقت الهزيمة كان فى العاشرة، تغير العالم من حوله وانقلبت الدنيا رأساً على عقب، كل ما سمعه وتربى عليه تغير، كله كان كذبا وانهار، عليه أن يعيش دنيا جديدة، يابان جديدة، كلاماً جديداً.. معانى جديدة: كله كذب.. كل شىء كذب.. لن يصدق شيئاً بعد الآن!

ولد أوى كنزابورو بقرية وسط غابات جزيرة شيكوكو غرب اليابان، عاش فى ظلال أقسى تجربة عرفتها الإنسانية: القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكى، وسط أشلاء وشظايا كل شىء: كرامته وكرامة أهله ووطنه وكل ما كان يصدقه ويؤمن به، ينتقل إلى العاصمة المضطربة: طوكيو، بقلب فارغ خائف، يدرس الأدب الفرنسى، وينشر أولى قصصه وهو مازال طالباً، ثم أول رواية 1958 عنوانها: «اقطف الزهور وأطلق النار على الصبية».

■ ■ ■

أهم أعماله رواية: صرخة صامتة (1967)، أما رواية «هموم شخصية» (1964) التى نحن بصددها فهى أكثر أعماله دلالة على تجربته الإنسانية والفنية، وقد أصدر فى نفس العام عملاً غير روائى مثيراً أيضاً هو: مذكرات هيروشيما.

رواية لاهثة مثيرة للقلق لكنها حادة جميلة كأنها مكتوبة فى نفس واحد رغم كل ما فيها من دقة وإحكام.

البطل «بيرد» أو عصفور: اسماً وشكلاً: أب فى السابعة والعشرين ينتفض خائفاً مضطرباً فى شوارع وحوارى طوكيو ينتظر أخباراً عن زوجته التى تعانى آلام الولادة فى المستشفى، الولادة متعثرة، معها حماته، هو يتصل تليفونياً كل ساعة: ولا أخبار جديدة، عصفور فعلاً: كما أطلق عليه أصحابه وهو فى الخامسة عشرة، مازال كذلك حتى الآن، وهو ينظر إلى صورته المنعكسة فى زجاج المحال التى يمر من أمامها: «ليس فقط لأن كتفيه محنيتان يشبهان جناحين مطويين، ملامحه كلها تشبه العصفور: أنفه الأملس مدبوغ بالسمرة يبزغ من وجهه مثل منقار معقوف بحدة تجاه الأرض، عيناه مشعتان بضوء خامد كليل فى لون الغراء، تكادان لا تبديان أية عاطفة فيما عدا فتحهما وغلقهما فى اندهاشة خفيفة، شفتاه رفيعتان جامدتان ممطوطتان دائماً بإحكام فوق أسنانه وترسم عظمتا الوجنتين خطين إلى ذقنه فى شكل V، والشعر شارد نحو السماء مثل «ألسنة اللهب».

فى هذا الأسلوب المتعمد المثير للقلق تمضى ثلاثة أيام هى زمن الرواية وزمن محنة الميلاد الصعب لابن عصفور الأول: نعرف فيها كل شىء عن حياته: هذا مولوده الأول، تزوج منذ ثلاث سنوات، سيطر عليه فيها حلم دائم بالسفر إلى أفريقيا والتجول هناك لثلاث سنوات وكتابة كتاب بعنوان «سماء فوق أفريقيا» من أجل الحلم يدخر كل مليم ممكن، رغم الظروف المادية الصعبة، ويشترى كل ما يمكنه من كتب وخرائط عن الطرق والمواصلات، كذلك يمر عصفور بمحنة إدمان الخمر.

فى ذلك الصيف أمضى أربعة أسابيع متصلة، يجلس طوال اليوم إلى ساعة متأخرة فى مطبخ الشقة يسمع تسجيلات ويحتسى الويسكى.. بعد أربعة أسابيع عاد عصفور إلى وعيه من سكر مؤلم مدته سبعمائة ساعة فى نفسه الرصينة التعسة خراب مدينة التهمتها نيران الحرب، مع رغبة طفيفة فى الشفاء.

لذلك كان عليه أن يحذر من الدخول إلى أية حانة من الحانات التى يمر عليها، حتى ولا لمعاودة الاتصال بالمستشفى.

بعد عذاب ليلة طويلة يوقظه من نومه القلق فى الفجر بتليفون من المستشفى.

من فضلك احضر فوراً، الطفل غير طبيعى، الطبيب سوف يشرح لك.. زوجتك بخير من فضلك احضر حالاً..

فى سرعة تتداعى الأشياء كأنها أوراق «الدمينو» من الدراجة إلى التاكسى إلى القطار إلى المستشفى، الطبيب الكبير يأخذه بعيداً ليعرض عليه «البضاعة».. هكذا يسمى المخلوق المسخ الذى جاء، قطعة حمراء متورمة ورأس منتفخ ضخم، التشخيص المبدئى «فتق فى المخ» يجب نقله فوراً إلى مستشفى كبير متخصص، لتجرى هناك جراحة كبرى:

- فتق فى المخ، فتق فى المخ من عيب فى الجمجمة، حالة نادرة، أول مرة أراها.

- هل هناك أمل فى أن ينمو بشكل طبيعى بعد الجراحة؟

- شكل طبيعى! نحن نتكلم عن فتق فى المخ! قد تفتح الجمجمة ويجبر المخ على العودة لمكانه، لكن حتى بعد ذلك ستكون محظوظاً لو حصلت على كائن حى له طبيعة نباتية!

يدخل عصفور وحده إلى عاصفة، هو لا يستطيع أن يرى زوجته، حالتها لا تسمح، وحتى لو سمحت ماذا يقول لها؟ حماته هناك عليه أن يقرر وحده، يمكن ألا يفعل شيئاً، ويترك: المسخ، البضاعة، كما يقول الطبيب، ابنه..!! يموت، ويمكن أن يجرى هنا وهناك ويجرى الجراحة، والجراحة، وينفق كل ما يملك، وما لا يملك ويتبخر حلم «سماء فوق أفريقيا»، وكل الأحلام، ويدخل هو وزوجته قفص السجن مع «مخلوق نبات» إلى الأبد، الكائن نشيط جداً يتحرك، ويلتهم زجاجات اللبن التى تقدم له، يمكن فقط استبدال اللبن بالماء.. سيتوقف كل شىء وينتهى الكابوس. حكم بسيط بإعدام ابنه؟

يخرج عصفور إلى الشوارع يبحث عن مهرب، عن حل، عن قرار يأخذ زجاجة ويسكى ويدفن نفسه عند صديقة قديمة، عشيقة من قبل الزواج، مازالت تحبه، يبحث معها خلال الشراب ما كان وما هو كائن وما سيكون، يدوران معاً فى دوائر من البيت إلى المستشفى إلى الفراش ومرة أخرى من البيت إلى المستشفى إلى الفراش بحثاً عن قرار.. تجرى الجراحة، يبحث عن اسم يطلقه على المخلوق من أجل أوراق المستشفى، يشترى مع عشيقته ملابس جديدة تلائم الكائن الجديد!

مع زوجته يقرر عصفور وقد هدّه التعب عن اسم: يعنى.. الأمل أو الصبر.

■ ■ ■

«أوى كنزابورو» عاش نفس هذه التجربة، مولوده الثالث ولد فى نفس الحالة تقريباً، وأخذ هو نفس قرار «عصفور»، وعاش كل حياته منذ ميلاد ابنه «هيكارى»، التى تعنى «النور» يرعى هذا الكائن الذى خرج بالصبر والرعاية من حالة النبات لكى يصبح الآن واحداً من أهم الموسيقيين فى اليابان.

بينما يعيش الأب معه ككاتب وواحد من أهم المناضلين ضد الأسلحة الذرية، وضد إعادة عسكرة اليابان وضد مظلة الأمان الذرى الأمريكى التى تبسطها الولايات المتحدة على الحلفاء القدامى!

هموم شخصية. أوى كنزابورو، ت: صبرى الفضل، روايات الهلال 1994

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية