تحدثنا فى المقالة السابقة عن الإنسان ودوره الأساسى فى البناء وصنع الحضارات، وخروج النازية عن هذا المسار، وأن نشأة النازية كانت لتوحيد الشعب الألمانى حول حزب وقيادة لاستعادة ما فقدته بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى. وقد عرضنا للأساليب التى استخدمها النازيُّون فى توحيد الشعب معه: مثل الدعاية، وضم الشباب إلى الحزب النازى من خلال تأهيله وتدريبه، كما استخدموا:
التعليم
أدرك النازيُّون تأثير التعليم القوى فلقنوا الدارسين أفكارهم التى تغرس تفوُّق الأجناس «الآرية»، ووصْف الأجناس الأخرى، واليهود خاصة، بالأجناس الدونية الرديئة التى تهدِم الحضارة والثقافة!! وكانت مُهمة التعليم الأولى غرس أفكار العنصرية ومعاداة السامية فى عقول الطلاب، مع ربط الطلاب من لحظة دخولهم المدرسة بالزعيم «هتلر»، الذى عُلقت صوره فى المدارس ووُضعت على الكتب المدرسية.
وقد ظهر الفكر العدائى ضد اليهود فى كلمة ألقاها «چوزيف جوبلز»، الوزير النازى للدعايات العامة فى «نورنبرج»، عام ١٩٣٥م، جاء فيها: «... فإن (البلشفية) هى إعلان حرب من قِبل يهود العالم، كبشر دونيِّين، ضد الثقافة نفسها، فهى ليست فقط ضد (البُرجوازية)، بل هى ضد الثقافة، وتعنى فى النهاية الهدم الكامل لكل التقدم الاجتماعى والاقتصادى والثقافى الذى خطَته الثقافة الغربية لمصلحة مجموعة من المتآمرين الرحّل العالميِّين عديمى الأصل...». وهنا نجد فى كلمة الوزير النازى ربطًا بين اليهود و«البلشفية»، وهى كلمة تعنى «الأغلبية»، وتشير إلى الحزب الذى ترأسه «لينين» قائد الثورة الشيوعية سنة ١٩١٧م، فقد أراد ذلك الوزير الإشارة إلى اليهود بأنهم يهدُفون إلى تحطيم الحضارة الغربية.
وهكذا استهدفت السياسة النازية التخلص من اليهود، وغيرهم من جنسيات أخرى فى المؤسسات الاجتماعية وغيرها فى ألمانيا. ويُذكر أنه جرى إبعاد المعلمين اليهود وغيرهم، بعد عام ١٩٣٣م، من المدارس العامة، وانضم عدد كبير من المعلمين إلى الحزب النازى يقدر بقرابة ٣٠٠ ألف معلم، وهو أكبر عدد من الموظفين فى القطاعات الألمانية الأخرى.
الولاء
اهتمت «المدرسة» و«شباب هتلر» ببث أفكار الطاعة والإخلاص لهتلر وسلطات الدولة، والعسكرية، بين الشباب الألمانىّ، مع خلق الاستعداد التام بينهم للتضحية بالذات والموت من أجل الوطن. وحلفَ الشباب بأن يكونوا مخلصين لقائدهم «هتلر» وخدمته كعسكريِّين فى المستقبل، وخدمة الوطن، كما اعتبروا عيد ميلاد «هتلر» عيدًا وطنيًا!
وبمرور الوقت، فى عام ١٩٣٦م، أصبح أمر انضمام الشباب إلى المنظمات النازية كـ«شباب هتلر» و«منظمة الفتيات الألمانيات»، أمرًا إجباريًا على الأولاد والبنات بين سِنَّى العاشرة والسابعة عشْرة.
خطوات للسيطرة والتوسع
وهكذا تحقق تمهيد الشعب بالدعاية، ونشر الأغنيات الوطنية والألحان العسكرية لتعليم معتقدات المذهب النازى بين الشعب الألمانى بسُهولة ويسر، واستقطاب الشباب من الجنسين إلى الأفكار النازية، وزرع الولاء للقادة النازيِّين، مع ما قام به النازيُّون من تدمير لكل ما يخالف معتقداتهم مثل طرد اليهود من المؤسسات الثقافية، وإشعال النيران فى أعمال كبار الأدباء الألمان فى احتفال أُطلق عليه اسم «احتفال حرق الكتب»!
إلا أنه فى محاولة لإخفاء الأهداف النازية التوسعية والإبادة الشاملة لليهود، شهِدت «ألمانيا» ضيافتها للألعاب الأوليمبية فى أُغسطس من عام ١٩٣٦م، وجرى إبعاد أى شعارات معادية لليهود أو الأجناس الأخرى، لتقديم مشهد غير حقيقى للزائرين الأجانب عن «ألمانيا» المسالمة السمحة التى لا تعادى أحدًا.
وبدأت أولى الخُطوات النازية فى تحقيق حُلم الإمبراطورية، فى سبتمبر من عام ١٩٣٩م، مع غزو «بولندا»، بعد تأمين حيادية «الاتحاد السوفيتى» بسبب الميثاق الألمانى السوفيتى بعدم الاعتداء. وقد عمِل النازيُّون من خلال الحملات الإعلامية على إيهام الشعب بأن الحرب ما هى إلا عملية دفاع عن النفس إزاء «الأعمال الوحشية البولندية» ضد الألمان، وذلك لتبرير الحرب أمام الشعب الألمانى الذى كان لا يرغب فى الدخول فى معترك الحروب.
وكان «الاتحاد السوفيتىّ» لايزال بعيدًا عن التدخل وَفقـًا للميثاق، بل بتشجيع ألمانى نازى احتل دُول «البلطيق» فى يونيو من عام ١٩٤٠م وضمَّها إلى أراضيه. إلا أن نقطة التحول جاءت فى عام ١٩٤١م، عندما غزت القوات النازية «الاتحاد السوفيتىّ»، فى خرق واضح للميثاق بينهما، واحتلت دُول «البلطيق»، وتوغلت فى الأراضى السوفيتية. ولكن مقاومة الجيش الأحمر لم تسمح بإسقاط «موسكو».
وفى ١٩٤٢م، هاجمت القوات الألمانية «الاتحاد السوفيتىّ» بهدف الاستيلاء على مدينة «استالينجراد» الواقعة على نهر «فولجا» ومدينة «بوكا»، وحقول البترول القزوينية. ولكن القوات السوفيتية شنت هجومًا مضادًا على القوات الألمانية حتى استسلم الجيش السادس الألمانى أمامها فى ١٩٤٣م.
الانتصار على النازية
جاء عيد النصر على النازية فى عام ١٩٤٥م، عندما هاجم «الاتحاد السوفيتى» الأراضى الألمانية ووصل إلى «برلين»، ويصف أحد المراسلين الصحفيين الروس، والذى ألحق بالجيش المتجه نحو العاصمة، الأحداث الأخيرة فيقول: «لن ينسى أحد منا تلك الليلة، لما نصبت قواتنا ثلاثة وعشرين جسرًا على نهر الأودر، وأخذت القوات الميكانيكية تتقدم على الأرض المنبسطة وهى تحدث أصواتًا رهيبة... كانت قواتنا الميكانيكية تستبق المشاة وتفتح لهم الطريق، كانت تتقدمنا الدبابات والمدافع على اختلاف أنواعها وأشكالها... والواقع أنى لم أر فى حياتى جهازًا دفاعيًا محكمًا كهذا الذى أقامه العدو حول عاصمته... لما وصلنا إلى بعض المنازل وجدنا شيئًا من آثار جوبلز، وزير الدعاية الألمانية، وقد كتب على المنازل بالخط الأبيض الظاهر هذه الجملة: «سيدافع كل ألمانى عن عاصمته، سنرد الحمر عن جدران برلين»!!
«ليجرب أن يردنا...» وهذا النصر أدى إلى انتحار «هتلر» وإعلان استسلام «ألمانيا» وسقوط «النازية» فى التاسع من مايو، الذى أصبح عيدًا وطنيًا فى «روسيا» يحتفل فيه بذكرى الانتصار على «النازية».
والجدير بالذكر أن رئيس بلادنا «عبدالفتاح السيسى» قد سافر الأسبوع الماضى، بدعوة من نظيره الروسى «فلاديمير بوتين»، للمشاركة فى احتفالات روسيا بالذكرى السبعين لعيد النصر، بحضور العرض العسكرى فى الساحة الحمراء بالكرملين، ووضع أكاليل الزهور على قبر الجندى المجهول.
إن النصر على النازية يُعد انتصارًا للحياة والبناء والعمل والتشييد وإقامة الحضارات، لا هدمها، والحفاظ على إنسانية البشر لا تحطيمهم، و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
*الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى