كتب : د. محمد سامح عمرو
نعيش اليوم فى عالم مضطرب.. وقد يرد البعض على ذلك بالقول: وما الجديد، ومنذ متى لم يكن عالمنا يعيش فى أجواء مضطربة؟ وكم سعى البشر لتحقيق السلام ولايزال العالم ضحية إشعال الفتن وإثارة النزاعات وبث روح الكراهية؟ ولا يمكننى أن أجادل فى ذلك، فمن المسلم به أنه لا توجد منطقة من مناطق العالم عاشت بمأمن من النزاعات المسلحة أو حصنت نفسها من صور استخدام القوة بأشكالها المختلفة. ولكن المشكلة الحقيقية أن ما يشهده عالم اليوم لا يعد من قبيل النزاعات التى عرفناها بالمعنى التقليدى أو الحروب التى كانت تشتعل لاحتلال جزء من إقليم أو السيطرة على مصدر من مصادر الطاقة، وإنما الملاحَظ أن صراعات ونزاعات اليوم وجدت فى إثارة الفتن ونشر الأفكار المتطرفة والمتشددة والسعى للحض على كراهية الآخر والتقليل من شأنه ومعتقداته وثقافته وسيلة جيدة لخلق حالة من الاضطراب، فإذا ما تحققنا من ذلك فلا يبقى أمامنا من سبيل إلا العمل على مواجهة هذه الظواهر الفكرية المتطرفة واقتلاع جذورها. ويبقى السؤال.. وكيف لنا أن نحقق ذلك؟
ولعل هذا السؤال يطرح نفسه علينا داخل منظمة اليونسكو بين الحين والآخر، بمجرد وصول خبر بأن هناك هجوما مسلحا على جامعة أو مدرسة ما، أو أن هناك تدميرا متعمدا لمتحف أو لموقع أثرى، أو الاعتداء على روح إنسان بسبب فكره أو عقيدته. وهنا نتساءل: ما دورنا كمنظمة فكرية معنية بالثقافة والتعليم والعلوم أسست بغرض «بناء صروح السلام فى عقول البشر»؟. وقد دفعنى هذا السؤال إلى السعى للبحث عن ذاتية هذه المنظمة الأممية وسبب وجودها، حيث وجدت منذ اليوم الأول محملة بمسؤولية كبيرة، وهى ضرورة العمل على الارتقاء بفكر الإنسان والحفاظ عليه، باعتباره أصل الكون وأساس الحياة.
لقد أنشئت اليونسكو فى ظروف غاية فى التعقيد، وخلال مرحلة كانت من أصعب الفترات فى تاريخ العالم الحديث، وهى فترة الحرب العالمية الثانية، فقد بدأ التفكير فى تأسيس هذه المنظمة بلندن عام 1942 حينما كانت هذه المدينة تعيش تحت صوت القنابل ودوى المدافع. ومع ذلك- ونظرا لأهمية تأمين الأجيال القادمة من ويلات الحروب، معتمدين فى ذلك على العلم والثقافة- حرص الساسة والقانونيون والمفكرون والفلاسفة والكتاب والباحثون على إيجاد آلية دولية تسعى بشكل مؤسسى ودولى للارتقاء بالفكر، بغية إيجاد البيئة المناسبة لوقف الصراعات ومنع استخدام القوة، أو تحجيمها على أقل تقدير. ولعل ما استوقفنى أثناء بحثى ودعانى للتفكير مليا هو أننى وجدت أن الباعث من وراء تأسيس المنظمة منذ البداية كان بهدف تحقيق «التعاون الفكرى».
لقد اعتدنا على استخدام مصطلحات مماثلة فى مناحى الحياة المختلفة مثل «التعاون الاقتصادى» أو «التعاون الثقافى» أو حتى «التعاون الأمنى»، إلا أننا نادرا ما نستخدم مصطلح «التعاون الفكرى». وتطلب ذلك أن أعمق بحثى، للوقوف على ما المقصود من هذا المصطلح، حيث وجدت فى كتابات بعض المفكرين ما يعيننى على فهمه مثل ما قاله العالم والفيلسوف الفرنسى «بول فاليرى»، حيث نادى بأننا «إذا منحنا العقل مكانا أرحب وسلطانا حقيقيا أكبر فى شؤون هذا العالم، فإن هذا خليق بأن يزيد من فرص هذا العالم فى الانتعاش وبسرعة أكبر». كما ذهب السياسى الفرنسى «جورج بيدو» للترويج لفكرة تأسيس اليونسكو بأن ذلك يعد «الضرورة الباقية لإضافة نقطة ارتكاز ثالثة إلى حجرى الأساس الاقتصادى والاجتماعى». فى حين ذهب رئيس وزراء بريطانيا «كليمنت أتلى» إلى القول فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى بأن «شعوب العالم اليوم أشبه بالجزر التى تتبادل فيما بينها نداءات ترسلها عبر محيطات من سوء التفاهم. لقد قال المثل القديم: (اعرف نفسك)، ولكننا نقول الآن: (اعرف جارك) لأن جارنا اليوم هو العالم بأكمله».
ولقد استوقفنى كل ما تقدم، حيث شعرت بأن كل ما قيل فى منتصف القرن الماضى يصف حالنا اليوم، وبالتالى يفرض علينا ضرورة التمسك بفكرة «التعاون الفكرى» كأحد السبل لأن تسود لغة العقل والاعتدال فى مواقفنا وتصرفاتنا وأقوالنا، سعيا منا للاستمرار فى تشييد صروح السلام فى عقول البشر وتأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال الارتقاء بالفكر والعمل على تحقيق «التعاون الفكرى».
إن عالمنا اليوم فى حاجة ماسة لقيادة رجال الفكر المستنير لتحقيق الإبداع والتطوّر والتنمية المنشودة. وعلى الرغم مما يقال من وجود اختلافات أو وجهات نظر متباينة بين الثقافات والحضارات، فإنه ينبغى علينا أن نقر- ردا على ذلك- بأن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا. علينا أن نواجه من يسعون إلى بث روح العنف والتطرف والحض على الكراهية بين الشعوب. إن العدو الأساسى اليوم هو الإرهاب والتطرف الذى أصبح لا يكتفى بأن يهاجمنا من الخارج، وإنما يسعى لبث جذوره داخل مجتمعاتنا، مستغلا فى ذلك الجمود الذى أصاب مجتمعاتنا والنظرة الضيقة للأمور.
على العالم أن يدرك أن الجمود هو مصدر التطرف الفكرى، وأننا علينا أن نعاود النظر ونتبع سياسة التجديد، فالتطوير والتغيير هما من سمات الدنيا، بل إن الكون نفسه يتغير ويتجدد ويكون عرضة للتدمير إذا توقف عن الحركة، ولو للحظات. ولا يمكن فى هذا المقام ان أدلل على أهمية التطوير والتجديد بأبلغ مما قاله العلَّامة العلاء ابن النفيس: «ربما أوجب استقصاؤنا النظر عدولا عن المشهور والمتعارف، فمن قرع سمعه خلاف ما عهده، فلا يبدرن بالإنكار، فذلك طيش، فرب شنع حق ومألوف محمود كاذب، والحق حق فى ذاته لا لقول الناس له، ولنذكر دائما قولهم (إذا تساوت الأذهان والهمم فمتأخر كل صناعة خير من متقدمها)».
علينا أن نُذَكِّر أنفسنا بما نادى به قادة الفكر والتنوير فى مختلف العصور، فها هو الفيلسوف والكاتب الفرنسى «فولتير» الذى قال فى القرن الثامن عشر: «قد أختلف معك فى الرأى، ولكنى على استعداد أن أموت، دفاعاً عن رأيك». كما قال فى موضع آخر: «كن شديد التسامح مع من خالفك الرأى، فإن لم يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك برأيك». كما قال العلامة ابن رشد، فى تعليقه على ما ذكره الحكيم أرسطو: «من العدل أن يأتى الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتى به لنفسه وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذى يقبله لنفسه». كما يجب علينا أن نتأمل ما قاله غاندى: «عليك أن تكون أنت التغيير الذى تريده للعالم».
ومسألة الارتقاء بالفكر وتحقيق «التعاون الفكرى» لن تتحقق- فى رأيى- إلا من خلال منظومة التعليم، فالتعليم هو المفتاح الذى نتمكن من خلاله من فتح الأبواب على الثقافات والحضارات وفهم الأفكار والعقائد الأخرى، بل لا أبالغ إن قلت إنه أساس فهم كل مجتمع لتركيبته وذاتيته وثقافته. لقد أصبحت المجتمعات فى حاجة ماسة لفهم ذاتيتها حتى تتمكن من فهم الآخر. والتعامل مع التعليم باعتباره طوق نجاة يحتاج النظر إليه من زاويتين:
الزاوية الأولى هى من منظور وطنى، حيث يجب العمل على تطوير منظومة التعليم من خلال إعادة النظر فيها بشكل شامل ومتكامل، أى كما نقول بعين الطائر. لقد تجاوزنا مرحلة النظر إلى هذه المنظومة على أساس جزئى، فلا يمكن لهذا الأسلوب أن يحقق طموحنا المنشود، فوضع خطة لتطوير التعليم تقوم على رؤية واضحة للوسائل والأهداف هو أمر لا مفر منه، حتى لو تطلب ذلك بعض الوقت. المهم فى هذه المرحلة أن نبدأ فى وضع خطة متكاملة تشمل المناهج التعليمية ومضمونها، والمعلمين من حيث تأهيلهم وإعدادهم، والتلاميذ وكيفية تنمية مهاراتهم، والمدارس كمؤسسة تعليمية، لكونها البوتقة التى ينصهر بين جدرانها كل ما تقدم. وحتى نكون واقعيين وغير حالمين، فالتعامل مع الواقع يفرض نفسه، حيث لا يمكن أن نتجاهل ضعف الإمكانيات المادية المتاحة وكثرة عدد التلاميذ فى المدارس، مما يفرض علينا ضرورة التفكير فى منهج مختلف لتطبيق منظومة التعليم الجديدة، حيث يمكن أن نبدأ بتطبيقها فى محافظة أو عدة محافظات إلى أن نصل إلى مرحلة التعميم بعد مرور عدة سنوات. المهم أن تكون لدينا خارطة طريق واضحة نسير عليها، ولا بأس- حرصا لاختصار الوقت- فى أن نستعين بتجارب الآخرين التى ثبت نجاحها مادمنا حافظنا على ذاتيتنا الثقافية. علينا أن نوجه أكبر جزء من الميزانية لوضع البنية الأساسية للتعليم، باعتباره حجر الزاوية لتنفيذ أى خطة تنموية، فمهما كلفنا التعليم فسيكون العائد والمنفعة على المجتمع فى مجمله أعظم بكثير، فالاستثمار فى التعليم أيا كان حجمه لا يعتبر مكلفا، وربما هذا ما دفع الرئيس الأمريكى إبراهام لنكولن إلى القول بأن «إذا اعتبرت التعليم مكلفا، فعليك أن تجرب الجهل».
أما الزاوية الثانية فهى النظر لقضية التعليم من المنظور الدولى، فلا يمكن للعالم أن ينهض ويقى نفسه من شر التطرف والإرهاب إذا اقتصر التعامل مع تطوير منظومة التعليم على المستوى الوطنى فحسب، فمع انتشار وسائل الاتصال الحديثة التى فاقت المسافات وتجاوزت فكرة الحدود بمفهومها التقليدى، لا يمكن لدولة ما أو مجموعة دول تنتمى إلى منطقة إقليمية ما أن تدَّعِى أنها حققت التطوير المنشود فى منظومة التعليم ولا يعنيها ما يجرى فى العالم من حولها، فلن يجدى كل هذا الجهد فى تحصين هذه الدول أو المناطق مادامت هناك أفكار متطرفة أو شاذة يتم تناقلها من خلال وسائل الاتصال الحديثة التى تُمَكِّن أصحاب الفكر المتطرف من الدخول إلى أعماق المجتمعات دون مشقة، فعلى الدول التى خطت خطوات كبيرة فى مجال تطوير التعليم أن تساعد الدول الأخرى التى لم تمض قدما بنفس الدرجة. وهنا يأتى دور المنظمات الدولية، وفى مقدمتها اليونسكو، لتقوم بدور المنسق وتطرح المبادرات وتسعى لتوفير الدعم المالى لتحقيق منظومة تعليمية عالمية تكون حصنا لنا جميعا كى نحتمى به لمواجهة موجات العنف وبث روح الكراهية. وعلى العالم فى المقابل أن يقدم العون اللازم لليونسكو كى تستمر فى أداء رسالتها النبيلة، من خلال تنفيذ برامج التعليم التى تسعى إلى تطوير الفكر وتعزيز مفهوم التعددية بشكله الإيجابى وليس السلبى. علينا أن نعمل تحت سقف هذه المنظمة الأممية، لفتح آفاق أرحب للثقافة والتنمية، وأن نهيئ البيئة المواتية ليس فقط لضمان حرية التعبير عن الرأى، وإنما لضمان أن ما يتم التعبير عنه لا يساء فهمه أو أن يستغل لتدمير مجتمعاتنا وعالمنا ذاتيا.
* سفير مصر باليونسكو
ورئيس المجلس التنفيذى لليونسكو