الحمدلله ، كل أسبوع مصر تقوم على حكاية وتنام على رواية، ربك عالم بحال الاعلاميين والكتاب ، ماذا سيقدموا للزبائن و البلد " بحطة ايدك" لا يوجد بها جديد سوى سيل التصريحات غير المدروسة من المسؤولين والمجادلات العقيمة بين أنصاف المتخصصين وكليبات الفيديو التى تحرق الدم ، ماذا كنا سنفعل دون هذا الصخب ؟ هل مثلا، مثلا نتأمل وندرس بعناية بلورة النظام العالمى الجديد ودور الصين وورطة السعودية وحكمة ميركل وحنكة بوتين ومكره وتنازلات اولاند وتراخى اوباما وإصرار إيران وصعود الهند.. بالطبع هذا لا يشغل بالنا، فنحن ضيوف على كوكب الأرض، ومثل هذه المواضيع تحتاج لبذل جهد ووقت ودراسة ومتابعة ، ونحن تعودنا على الاختيارات السهلة التى نحفظها، أسماء محددة خبيرة فى شئون البلاد والعباد ، أمثال هؤلاء مستعدون للحديث فى كل شىء بداية من الجنس وآثاره الضارة على الأمن القومى وحتى باب المندب وتآمر العالم على مصر لأنه يخاف من نهضة ابن النيل!.
ولأننا ندمن تكرار الكلام ، وندور فى ذات الدوائر المغلقة ، ونناقش ما سبق أن ناقشناه مئات والآف المرات، فعلينا الآن ان نناقش بهدوء تصريحات وزير العدل المستشار محفوظ صابر بشأن عدم تعيين أبناء عمال النظافة في القضاء، حفاظا على وضعية القاضى وهيبة وظيفته.
وزير العدل قال ببساطة ما قد يضع رؤساء مصر بعد ثورة 1952فى وضع محرج، فلو طبقنا معايير الاختيار التى تليق بوظيفة رفيعة مثل وظيفة رئيس جمهورية لسقط عدد كبير منهم فى الاختبار، وربما نجد اكثرهم لا يتمتع بمثل هذه المعايير، فجميعهم من أصول تتراوح بين الفقر والستر، وان كان القاضى، طبقا لرأى وزير العدل ، يجب ان يكون من الطبقة المتوسطة ذات الخلفية الثقافية والتعليمية اللائقة، حتى يكون محترما بين الناس وليس لديه عقد نفسية او كما نقول بالبلدى " شبعان من بيتهم " فهذا الشرط لم يكن ينطبق على جمال عبد الناصر الذى ارتضى الشعب المصرى بكل طوائفه ان يحكمه ابن عامل بريد بسيط ، او السادات الذى كان لديه عقدة من بشرته السمراء التى ورثها عن امه، ومبارك الذى جاء من بيئة ريفية متواضعة جدا فى كفر مصيلحة ، ومرسى الذى تربى من خير فدادين الاصلاح الزراعى ، وأخيرا السيسى الذى جاء من عائلة من الطبقة الوسطى تعمل بالتجارة فى منطقة شعبية، لم ينتم احد من رؤساء مصر لعائلة ارستقراطية أو عائلة كبيرة ذائعة الصيت ولاحتى من عائلة تنتمى للطبقة المتوسطة العليا ، بل هم جميعا أقرب إلى الطبقات الشعبية البسيطة ، لم أذكر الرئيس محمد نجيب لأن له وضع خاص لامجال للحديث عنه وكذلك المستشار عدلى منصور.
لم يجد الشعب المصرى غضاضة فى أن يحكمه رئيس من أسرة متواضعة مادام قد أثبت كفاءة أهلته للترقى ووصلت به إلى صفوف الحكم بشكل أو بآخر، قيم المساواة والعدالة الاجتماعية التى أرست قواعدها ثورة 1952 ،أو كما يحب أن يسميها البعض حركة الضباط الأحرارأو انقلاب الجيش على الملك ، تم وضعها موضع التنفيذ بحزمة قوانين على رأسها التأميم وقوانين الاصلاح الزراعى ، كما أن دساتير مصر كلها التزمت بالمساواة بين المواطنين ، صحيح ان ذلك لم ينفذ واقعيا ابدا ومع بداية ثورة 1952، حيث انتقلت كثير من امتيازات الباشوات والارستقراطية المصرية فى عهد الملكية إلى حكام مصر الجدد: الضباط الأحرار بصفة خاصة وضباط الجيش بصفة عامة باعتبارالجيش مرجعية شرعية ثورة 52، وتوالت منظومة الامتيازات لبعض المهن والوظائف الأخرى.
نعود لحديث المستشار صابر وزير العدل الذى يأتى متعارض مع الدستور المصرى ولا يتوافق مع حقوق الإنسان وقد يوصف بالعنصرية والتمييز، بعد أن قرأت تصريحه المنشور على جميع المواقع سألت نفسى هل رجل القانون أقل منا علما بمواد الدستور ؟ بالتأكيد لا، ولكن سيادة المستشار لا يتحدث عن الكتاب الذى بين ايدينا ويحمل عنوان" الدستور "والذى تركنه البلد على الرف ، ولاتتذكره إلا عند الرغبة فى تأجيل الانتخابات او حل مجلس الشعب مثلا أو مدى دستورية قانون، فيما عدا ذلك فمصر تسير بمجموعة قيم مشوهة خليط من بقايا العصر الناصرى والساداتى والمباركى ومظاهرات التحرير.
فلنتصارح بالحقيقة، الدستور شىء والواقع شىء آخر وهذا وضع كارثى ، فلاتوجد مساواة حقيقية فى مصر لابين الجنسين ولابين أبناء الجنس الواحد ، حاول زيارة قسم شرطة واطلب فتح محضر يوثق شكوتك وستعرف حينذاك موقعك فى هذا البلد.
ما قاله وزير العدل لم يكن له أن يقوله كمسؤول يدافع عن القانون ويحترم دستوربلده ، ولكنه تحدث كشخص عادى من الشعب لا يمثل القانون ولا يمتثل لبنود الدستور، الدستور لا يحكمنا ولاحتكم إليه ، لكننا نعيش وفق نصوص عرفية ، تماما مثلما نفعل مع القرآن ، فنحن لانطبق منه إلا ما نسيطر به على الآخرين ونحاربهم به وليس ما يهذب سلوكنا ويقومه.
لنضع تصريح وزير العدل فى موضعه الطبيعى، فهو مجرد دليل جديد على عدم وجود قيم ومعايير واضحة تقود عقل وفؤاد وسلوك الشعب فى هذه الفترة، لا توجد رؤية واضحة لدى القيادة السياسية والحكومة المختارة عن صورة مصر المستقبل وما هى القيم التى يجب ان نتوافق عليها مجتمعيا ونغرسها فى نفوس الشعب لتحقيق هذه الصورة.
للحديث بقية فى مقال الخميس بإذن الله.