نواصل اليوم حديثنا عن تجديد الخطاب الإسلامى والدعوى.. وندلف مباشرة إلى عناصره الرئيسية:
سادسا ً: خطاب الأولويات:
وهو الخطاب الذى يلتزم «فقه الأولويات» وهو فقه مهجور لدى المسلمين عامة والإسلاميين والدعاة خاصة.. ولو أن الخطاب الإسلامى التزم «فقه الأولويات» لنجا من كل المزالق والمهالك التى وقع فيها أو التى أعدت له فسقط فيها بسذاجة.. فمن قدم الفروع على الأصول.. أو فرض الكفاية على فرض العين.. أو عمل الجوارح على عمل القلوب أو الهدى الظاهر على صلاح الباطن من الغش والرياء والكبر والحقد، أو قدم اجتناب الصغائر على الكبائر.. أو الاهتمام بالسنن قبل الفرائض، ومن مظاهر الخلل فى هذا الفقه تقديم مصالح الجماعات على مصالح الإسلام والأوطان، أو أن ترى المتدين رقيقا ودودا مع أصدقائه وأخلائه وفظاً غليظاً مع والديه.. فكل ذلك يدل على الخلل العميق فى فقه الأولويات.
وقد جاء أهل العراق إلى ابن عمر يسألونه عن حكم دم البرغوث فقال لهم مغتاظا : قتلتم ابن بنت رسول الله وأتيتم تسألون عن دم البرغوث.
إن من يحول الخطأ إلى خطيئة، أو الخطيئة إلى الكفر لم يتشرب عقله وقلبه فقه الأولويات.. ومن قدم الحرب على السلم أو مصالح الأشخاص والجماعات والأحزاب على جثث الأوطان لم يفقه شيئاً فى الأولويات، ذلك الفقه العظيم الذى لا يدرس حتى الآن فى جامعاتنا ولا مدارسنا وهو الذى يقتضى تقديم الأصول على الفروع ومقاصد الشريعة على الوسائل والآليات.. والإيمان على بر الوالدين.. وحفظ الوطن ووحدته على حظوظ الحكام من المناصب والجاه والدوران حول الأوطان لا حول الحكام، والشورى على حكم الفرد.. والكيف على الكم.. والاجتهاد على التقليد.. والعمل الدائم على المنقطع.. وترك الشرك والكفر على ترك البدعة.. إنه الفقه الغائب عن حياة المسلمين وخطابهم وحركاتهم.
سابعا ً: خطاب المرونة:
فالإسلام يتكون من عنصرين ومكونين رئيسيين:
أحدهما المكون الشرعى الإلهى المعصوم الصادر عن الله وعن رسوله (ص).
وثانيهما: المكون البشرى غير المعصوم.. والذى صدر ويصدر عن كل من تصدى للمكون الشرعى المعصوم بالشرح والبيان والفتيا والتحليل.
ومن عظمة الإسلام وشريعته أنه جمع بين عنصرى الثبات والمرونة.. فمن ثوابت الإسلام عقائده وأخلاقه وأركانه وأصوله ومقاصده الكلية.. ومن متغيراته كل مسائل الاجتهاد والقياس ومالا نص فيه والجزئيات والفرعيات الفقهية والفتاوى التى تبنى على المصلحة أو العرف ولا تبنى على النص القطعى الثبوت والدلالة.
وإذا كانت الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان فالخطاب الدعوى يتغير من باب أولى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، فالإسلام يجمع بين عنصرين ظاهرهما التناقض وحقيقتهما التكامل.. ففيه الثابت الصادر عن الله ورسوله وفيه البشرى المتغير، والثبات والمرونة يجعلان الإسلام ديناً حيوياً متجدداً غضاً طريا ً.. فالفكر مثلاً هو نتاج بشرى حتى لو كان إسلاميا .
إن مشكلة البعض حالياً هى الرغبة فى تمييع الدين بحيث لا تكون له ثوابت أو أعمدة يقوم عليها فيصبح كالهباء المنثور.. أو بمعنى أبسط «تحويل الإلهى المعصوم إلى بشرى متغير غير معصوم»، كما قال البعض «إن القرآن منتج تاريخى ثقافى».. وهذا كذب وإفك فالقرآن هو كتاب الله سبحانه وتعالى ووحى السماء للناس جميعاً ودستور هذه الأمة «الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».
فتحريم الزنى ومقدماته والشذوذ وتوابعه من ثوابت الإسلام بل الأديان، والبعض اليوم يريد أن يحوله من ثابت لمتغير.. وهذا والله لا يكون ولن يكون.. بعيداً عن الإسلام والأديان.. ولكن فى الفطر والضمائر.. « فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا».
أما مشكلة بعض الإسلاميين فهى رغبتهم فى تحويل متغيراته إلى ثوابت.. أو نقل البشرى غير المعصوم من الإسلام إلى إلهى معصوم.. وهذه والله ستضر الإسلام ضرراً بليغا.. لأن الله لم يجعل بينه وبين الناس واسطة.. وليس فى الإسلام رجال دين ولكن علماء ربانيون يبلغون الحق وينضبطون به.
فالثابت يحفظ الإسلام من الذوبان، والمتغير يعطى الدين حيويته ومرونته وصلاحيته لكل الأزمان والأوطان.
وينبغى على الخطاب الإسلامى والدعوى أن يكون مع ثوابت الإسلام فى صلابة الحديد، ومع متغيراته فى مرونة الحرير.