x

د. ياسر عبد العزيز الإعلام المصرى وصناعة القيم المضادة د. ياسر عبد العزيز الخميس 07-05-2015 12:33


«الحياد خيانة»، و«الموضوعية خرافة»، و«التوازن عدم وطنية»، و«الدقة حذلقة»، و«إتقان اللغة مسؤولية المدقق»، و«التدريب إضاعة وقت»، و«النسب إلى المصادر يضعف الخبر»، و«أهم موضوع هو الأكثر قراءة»، و«أفضل مذيع هو أفضل مهرج»، و«إيراد الخلفية والسياق استهلاك للمساحة»، و«مراعاة الإنصاف ما تأكلش عيش»، و«احترام الملكية الفكرية تنطع»، و«الرقص على الحبال والمواقف.. رشاقة»، و«تبديل الولاءات.. حرفنة».

العبارات السابقة سيمكنك أن تسمعها أو تفهمها من حديث كثيرين من العاملين في صناعة الإعلام في مصر، باعتبارها خلاصة خبراتهم، أو التصور الذي يمارسون عملهم من خلاله، ويعتقدون أنه أساس النجاح في مهنتهم.

وهذا التقييم للأسف لا يقتصر على قطاع واسع من العاملين في الميدان الصحفى والإعلامى فقط، لكنه يمتد طبعاً إلى معظم الملاك، وبعض المُنظّرين، وأغلب رجال الإعلان.

لا يمكن فصل الحال التي وصل إليها الإعلام في مصر خلال السنوات الفائتة عن حال الارتباك والخلل التي نعيشها في كافة المجالات.

وبوصفه صناعة، فإن معايير الجودة الخاصة به قد تكون متدنية كما هي الحال في بقية الصناعات، وإذا نظرنا إليه على أنه خدمة، فإن التردى الذي ضرب الخدمات كلها لم يستثنه بالطبع، وباعتباره نشاطاً إنسانياً، فإن التراجع الذي أصاب كافة أنشطتنا الإنسانية قد طاله بكل تأكيد.

لكن الإشكال الكبير الذي يتعلق بملف الإعلام المصرى يكمن في أنه صناعة أكثر تأثيراً من معظم الصناعات، ونشاط إنسانى أعمق وأهم من أنشطة كثيرة، وخدمة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، ومجال لصياغة الرأى العام، وبلورة المواقف، وتطوير السياسات، وتقييم الحكومات، وتحديد الأولويات الوطنية، وإدامة العقل العام أو خطفه وتسطيحه.

للأسف الشديد، فإن الإعلام المصرى خلال السنوات الأخيرة بات ميداناً لصناعة القيم المضادة والترويج لها والعمل من خلالها.

ستتحمل السلطات العامة مسؤولية كبيرة عن حال الخلل التي يعانيها الإعلام الآن، لأنها أخفقت في تنظيم المجال الإعلامى، وعاندت المطالب الرامية إلى تأمين الحريات، وأظهرت الحرص الكبير على تطويع الإعلام واستخدامه كأداة دعاية بدلاً من تحريره وتطويره ليصبح أداة استنارة.

وسيشارك الجمهور في المسؤولية بكل تأكيد، لأنه أظهر إفراطاً في «تعاطى» المواد الإعلامية الرديئة، وراح يشجع الممارسات الحادة والمنفلتة، ويحتفى بها، ويروج لها، في الوقت الذي انصرف فيه عن كثير من المبادرات المهنية المسؤولة، ولم يساند أنماط الأداء الرشيد بالشكل الواجب.

وستسهم الأكاديمية، ومنظمات المجتمع المدنى المعنية، بقدر من المسؤولية عن تردى الأداء الإعلامى العام، خصوصاً أن تلك الدرجة من التدنى لم يكن من السهل أبداً الوصول إليها إلا من خلال خريجين غير مؤهلين بما يكفى، ونظام «دقة عامة مجتمعية» قاصر ورخو، لم يقم بدوره في المتابعة وإخضاع الأداء الإعلامى للتقييم ومساءلة المخطئين والمتجاوزين مجتمعياً وأخلاقياً على النحو اللازم.

لكن الإعلاميين والصحفيين يتحملون المسؤولية الكبيرة عن هذا التدنى، ومعهم بكل تأكيد هؤلاء الذين امتلكوا وسائل الإعلام الجماهيرية لتوظيفها في خدمة مصالح سياسية أو تجارية، أو للتغطية على جرائمهم الجنائية، أو لغسل سمعتهم، أو لغسل أموالهم، أو لاتخاذ نقاط ارتكاز فعالة، تيسر لهم التأثير في المجال العام والسياسة العامة بما يحقق أغراضاً غير معلومة أو معلنة.

نحن لا نعرف على وجه اليقين «من يملك ماذا؟» في مجال الإعلام الخاص في مصر.

الأنكى من ذلك، أن حجم ما تم ضخه في صناعة الإعلام خلال السنوات التي تلت ثورة 25 يناير بلغ على الأقل ثلاثة أمثال عائد الإعلان الذي يعد المورد الطبيعى والصحى والمنطقى لإدامة الصناعة.

يعنى ذلك أن جنيهين من كل ثلاثة جنيهات تم إنفاقها على صناعة الإعلام في مصر خلال السنوات الخمس الفائتة لم تكن بغرض الاستثمار، ولا استهدفت الجدوى، ولا أرادت تطوير الصناعة نفسها، وإنما استهدفت أشياء أخرى لا نعلمها كلها بالضرورة، ولا نعلم من الذي يقف وراءها.

الإعلام المملوك للدولة، بأشكاله المختلفة، كان أقل صخباً ومجاراة للخطل في أنماط الأداء، لكنه لم يستطع أن يكون مصدر الاعتماد الرئيس للجمهور وفق بيان مهمته، وقد حرم المواطنين والدولة من نحو خمسة مليارات جنيه سنوياً، لم يحسن استخدامها لتقديم خدمات لائقة، ولم يتركها للدولة لإنفاقها في أغراض أخرى أكثر إلحاحاً.

وبشكل عام فقد أخفق الإعلام بشقيه الخاص والمملوك للدولة في مخاطبة الخارج، فلم تمتلك مصر صوتاً يوصل ذرائعها وحججها إلى العالم بطريقة سلسة وفعالة في أحلك الأوقات التي مرت بها خلال السنوات الخمس الفائتة.

كل هذا الصخب الذي صدع رؤوس الجمهور المصرى، وكل هذه المليارات، وكل هؤلاء المذيعين والمذيعات، ومنهم «المذيع القائد، والمذيع الفيلسوف، والمذيع الملهم، والمذيع المُعلم»، لم يوصلوا صوت مصر وذرائعها إلى خارج حدود البلاد.

ولولا بعض وسائل الإعلام الإقليمية النافذة، التي تصادف أن الدول التي تملكها كانت تريد مساندة بعض السياسات المصرية في العامين الأخيرين، لكانت مصر بلا أي صوت في إقليمها أو في العالم.

ليس هذا فقط، لكن بعض الصحفيين والمذيعين المصريين نجح في صناعة أزمات سياسية على أعلى مستوى، ليس لأنه يخدم تصوراً سياسياً محدداً، أو يعمل لمصلحة دولة أو تيار، ولكن فقط ليكسب عدداً أكبر من المشاهدات والتعليقات على برنامجه أو مقاله.

إن تفشى الأخطاء من نوع «خلط الرأى بالخبر» أو «خلط الإعلان بالإعلام»، أو «محاباة طرف ضد طرف»، أو «تشويه الحقائق»، أو «تجاهل السياق»، أو «الحجب والتعتيم»، أو «تجهيل المصادر»، وغيرها يحدث باستمرار في صناعة الإعلام المصرية، وبوتيرة متصاعدة، ومن دون مراجعة أو حساب.

إن هذا الأمر يقلقنى، لكنه ليس أكبر المخاطر التي تواجهها صناعة الإعلام.. فأكبر المخاطر التي تواجه تلك الصناعة اليوم: «سيادة القيم المضادة».

لا تكتفى صناعة الإعلام بالممارسة الخاطئة، لكنها تكسبها قيمة، وترسيها كمبدأ، وتطلبها كمعيار، وتكافئ عليها كإجادة.

من المنصف أن يكون تقييم أي منظومة متكاملاً، بحيث يتناول مميزاتها، وعيوبها، والمخاطر التي تحدق بها، والفرص المتاحة أمامها.. لكن للأسف فإن مزايا صناعة الإعلام المصرية، كما الفرص المتاحة أمامها، تضيق، في وقت تتسع فيه العيوب، وتتفاقم معها المخاطر.

ما زال هناك قطاع من الإعلاميين والصحفيين المصريين يقبضون على الجمر، ويحاولون المنافسة في ميدان عشوائى بقواعد معكوسة تحرسها القيم المضادة.

بعض هؤلاء خرج من الميدان وجلس في منزله، بعدما أدرك أن قدراته على السباحة ضد التيار أقل من أن تؤمن له الطفو، والبعض الآخر تم إبلاغه بضرورة الانصراف، وآخرون بدّلوا تبديلاً، حتى يمكنهم الاستمرار.

عدد قليل من وسائل الإعلام الخاصة والعامة ما زال يمتلك الاتجاه والرؤية ويحاول أن ينتصر للقيم «غير المضادة»، لكن الظروف لا تساعده، والسوق تضيق عليه، والواقع يضغطه ويرهقه.

الأسئلة التي يجب أن يطرحها المجال الإعلامى الوطنى على نفسه الآن بوضوح هي: هل أنا قادر على التمتع بثقة الجمهور واحترامه؟ هل أنا قادر على أن أخاطب العالم؟ هل أنا قادر على أن أحظى بتقدير الإقليم؟ هل أنا قادر على أن أنظم نفسى؟

فإذا كانت الإجابات بـ «لا»، فإن أسئلة أخرى يجب أن تثور؛ مثل: هل أقوم بدورى في إخبار الجمهور؟ هل أؤدى مسؤوليتى في مراقبة أداء السلطات؟ هل أنطلق في عملى من منظومة قيم؟

تلك وقفة يجب أن يقفها الإعلام المصرى مع ذاته؛ فذلك وقت المراجعة بكل تأكيد.

سيكون اعتراف المجال الإعلامى بالقصور الذي ينطوى عليه ضرورة، لكى يدرك الجمهور أنه في طريقه إلى الإصلاح، وسيكون امتلاك خريطة طريق واضحة ومنطقية لتحقيق الإصلاح ضرورة، للوصول إلى نتائج ملموسة.

وفى كل الأحوال، فإن بيت الإعلاميين والصحفيين، الذي بدا أنه من «زجاج»، ليس حائلاً بينهم وبين إلقاء المخطئين بـ «حجارة» النقد، أو تسليط الضوء على مواطن العوار والخلل في المجتمع والدولة.

لا يجوز القول إن وجود مخالفات وتجاوزات في وزارة الداخلية يحتم على أفرادها التخلى عن دورهم في كشف الجرائم وضبط المتجاوزين وإحالتهم إلى المحاكمات، ولا يمكن اعتبار أن الفساد في وزارة التموين ينزع منها الحق في ضبط السلع المغشوشة في الأسواق.

فالصحافة الرديئة أفضل من العتمة.. وأول طريق إصلاح الصحافة الرديئة أن يعرف أصحابها إلى أي حد بلغت رداءتها.

جزء من ملف «إعلام مصر..الرقص بنصف موهبة ونصف اخلاق»

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية