لم نعد نستسيغ إلا اللحم النيئ ورائحة العفن، يجذبنا القبح ونتحاشى الجمال، كيف تغيرت ذائقة المصريين إلى هذا الحد؟.
لم يعد الصبر الجميل من شيمنا ولا عدنا نستشعر جلال الحزن وقداسة الموت، استبدلنا بالصبر اليأس وبالحزن الصراخ، نتابع بشغف محموم فيديوهات سيدة المطار ومداخلة إيناس الدغيدى ومجادلات إسلام بحيرى وتصريحات وزير الأوقاف وأحاديث معاشرة الجن وزنى المحارم، نبحث عن أبطال الظلام ليقودونا إلى هزائم الروح وانكسارات الحلم، وكأن أرضنا الطيبة حرثت ولم يعد على سطحها سوى النبت الشيطانى.
من بين ذلك الكم الكبير من الركام، تلمع بين الحين والآخر فصوص الماس، لكنها لا تلفت الأنظار فهى مختفية تحت أكوام اللغو الفارغ والجدل العقيم، وصدق السيد المسيح عليه السلام حين قال «لا تلقوا الجواهر أمام الخنازير» فلن يقدروها.
فى ساعات قليلة أصبح فيديو سيدة المطار وهاشتاج «الحرية لياسمين النرش» يحظى بأكبر عدد من المتابعين على اليوتيوب وتويتر، ليس غريبا، يحدث ذلك فى العالم كله، فهذه الفقاعات الفارغة لها متابعوها وعشاقها، ولكن الفرق بيننا وبين غيرنا أنهم إلى جانب الفرقعات المثيرة للجدل لديهم أخبار جادة ومهمة تحوز اهتمامهم أيضا.
رسالة النقيب الشهيد أحمد فؤاد حسن إلى والدته والتى نشرت على بعض المواقع لم تلاق مثل هذا الاهتمام، فلم أجد معلومات عنه إلا خبر وفاته والسطور التى كتبها لأمه.
هذا النقيب الشاب قتل يوم الأربعاء 11 مارس الماضى حينما رصدت قوات الأمن ثلاث سيارات أثناء القيام بعملية تهريب عند العلامة الدولية رقم 3 برفح، وتصدت لها قوات الأمن وتم تبادل إطلاق النار مع المهربين، وقتل النقيب أحمد فؤاد حسن وفر المهربون.
خبر قصير ذكر ضمن موجز الأخبار، من فرط ما تعودنا على سماعه أصبح لا يستوقفنا، تماما مثلما لم تستوقفنا رسالته لأمه التى وجدوها فى جيب سترته العسكرية ولم ُيكشف عنها إلا منذ أيام قليلة وتداولها عدد محدود من المواقع، منها صفحة رئيس الجمهورية والمخابرات الحربية على الفيس بوك.
منذ سنوات وتحديدا فى عام 2008، نشر كتاب «يوميات إلى جوردان» فى أمريكا، تضمن الكتاب رسائل من أب لابنه الرضيع، الأب تشارلز كينج جندى أمريكى ذهب ليقاتل فى العراق، تاركا طفله الرضيع «جوردان» والأم دانا كيندى صحفية فى «نيويورك تايمز»، فكرت دانا فى طريقة لكيفية التواصل بين الأب الغائب والطفل الرضيع، أعطت زوجها دفتر يوميات وطلبت منه أن يكتب رسائل لابنه حين تسنح له الفرصة، كتب كينج لابنه مائتى صفحة، تحدث فيها عن خبرته فى الحياة وأعطاه الكثير من النصائح، فيما كان جوردان الصغير يكمل شهره السابع، قتل كينج فى أكتوبر 2006 وعاد لزوجته دانا جثة هامدة فى تابوت خشبى، وجدت دانا يوميات كينج بين متعلقاته الشخصية، وبكت وهى تقرأ الرسائل التى لم تصل فى أوانها، وبعد أن تجاوزت مأساتها، ووجدت الصحفية الموهوبة والمتميزة (حائزة على جائزة بوليتزر) أن رسائل زوجها لأبنه أكثر من كونها رسائل شخصية لطفل رضيع، لكنها رسائل لكل أب وابن، نشرتها فى كتاب أصبح حديث الإعلام الأمريكى حينذاك وبيع منه ملايين النسخ، أمريكا لا تصنع فقط نجوما وأبطالا فى أفلام هوليوود، لكنها تصنع أبطالا من الواقع، فهى تدرك أن أمة بلا أبطال هى أمة بلا قدوة.. أمة بلا ذاكرة.
فماذا فعلنا نحن مع رسالة النقيب أحمد فؤاد حسن الوحيدة التى بعث بها لأمه، والتى وصلتها وهى ترتدى السواد بعد استشهاده، ووصلتنا ونحن نتابع قتل جنودنا يوما بعد يوم، لا نذكر أسماءهم ولا نعرف ملامحهم، فقط عددهم، فلقد تحولوا لمجرد أرقام فى ذاكرة الوطن.
أحمد وإخوانه يموتون مرتين، المرة الأولى على يد المجرمين والمرة الثانية حين ننساهم.