تعيش مصر أياماً مثيرة بحق، وتتلاحق بها الأحداث المهمة بوتيرة سريعة وصادمة أحياناً، بشكل يجعلنا نشفق على زملائنا الصحفيين والإعلاميين، الذين يتوجب عليهم معالجة كل تلك القضايا المهمة، والبحث فى تفاصيلها، وكشف خباياها، واستقصاء تداعياتها، لمصلحة جمهور يفترض أنه شره للمعرفة، ومهتم بقضاياه الحيوية.
فى تلك الأيام المثيرة، يجرى الحديث عن تعديلات القوانين المنظمة للانتخابات البرلمانية المؤجلة، والتى لن يتم استكمال «خريطة الطريق» من دون إجرائها على نحو سليم. كما تتفاعل قضية «الفوسفات»، و«تسمم مياه الشرب»، ومشاركة مصر فى «عاصفة الحزم»، التى تغير اسمها، من دون أن نعرف السبب، إلى «إعادة الأمل».
فى تلك الأيام الصعبة، نقرأ أخباراً مقتضبة، من دون مصادر معلنة غالباً، عن عمليات إرهابية ومواجهات خطيرة مع الأمن، كما نعلم، بشكل موجز جداً وغائم جداً، أن هناك «ميليشيات قبلية» بدأت «عملاً عسكرياً» فى سيناء ضد «الإرهاب».
هناك أيضاً التغيرات الحادة والصادمة فى بيت الحكم السعودى، وأثرها المفترض على العلاقات مع مصر، إضافة طبعاً إلى جولة الرئيس السيسى الأوروبية، وترسيم الحدود البحرية المصرية فى شرق المتوسط، والاعتراض التركى على ذلك، والهجوم الضمنى عليه.
ربما لن تكفى مساحة هذا المقال لمجرد استعراض عناوين القصص والموضوعات التى تحتل أهمية بالغة وتنعكس بوضوح على حياة المواطنين المصريين ومستقبلهم ومعيشتهم اليومية. لكن مع كل ذلك، يبدو أن المجال العام، والإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعى تهتم بأشياء أخرى تماماً.
لطالما حرصت على الاهتمام بمعرفة «أجندة الأولويات» فى مجتمعنا بانتظام، بالنظر إلى أن تلك الأجندة تجسد رؤية المجتمع لنفسه، وتكشف عن درجة رشده، وتوضح اتجاه تركيزه ووجهة طاقته، وتحدد مسار عمله فى بعض الأحيان.
ولطالما استندت إلى أحاديث المنتديات، وبرامج التليفزيون الرئيسية، والصحف والمواقع الإلكترونية النافذة، وصفحات «التواصل الاجتماعى» لمعرفة عناوين تلك الأجندة.
من بين وسائل التقصى ذات الاعتبار فى ذلك الصدد متابعة أيقونة «الأكثر قراءة» فى مواقعنا الإلكترونية المهمة، التى تحظى بمتابعة الملايين يومياً.
ومن بين أبرز العناوين التى كانت «الأكثر قراءة» فى الأيام الأخيرة ما يتعلق بـ«دعوى خلع الحجاب»، وما تلاها من ملاسنات ومشادات وتفاعلات لم يهدأ غبارها حتى اليوم.
لم نكد نستوعب كافة التفصيلات المتعلقة بموضوع «الحجاب»، حتى جاءت تصريحات المخرجة إيناس الدغيدى، التى قالت إن «ممارسة الجنس خارج إطار الزواج حلال»، وهو الأمر الذى استدعى بدوره موجة من الهجوم والجدل والنقاش.
من بين العناوين الأكثر قراءة، ستجد أيضاً «رواد التواصل الاجتماعى يشنون هجوماً على مفيد فوزى بعد مطالبته بمناقشة أفكار إيناس الدغيدى»، و«نبيلة عبيد: رقصتى فى (نجم العرب) من أجل مداعبة الجمهور»، و«بالصور: ممثلة أفلام إباحية تنشر لقطات شبه عارية بالأهرامات».
سيقول قائل إن تلك النوعية من الأخبار تجد اهتماماً كبيراً فى وسائل الإعلام بالدول المتقدمة، وإن المحتوى الترفيهى، ذا الطبيعة الجنسية أحياناً، عادة ما يشكل عامل جذب فى معظم البيئات، وإن الصحافة الصفراء جزء من منظومات الإعلام فى أعتى الديمقراطيات.
أنا أوافق على هذا الطرح بطبيعة الحال، لكنى لا أجده مبرراً لما جرى عندنا فى الأيام الأخيرة، ويجرى باستمرار.
فى تلك المجتمعات المتقدمة تنشط الصحافة الصفراء أحياناً، وتستحوذ الأخبار ذات الطبيعة الجنسية على الاهتمام أحياناً، وتتصدر أخبار النجوم الفضائحية والساخنة الموضوعات الأكثر قراءة ومشاهدة غالباً، لكن ذلك لا يمنع أبداً الاهتمام بالقضايا المهمة، وإفراد المساحات الكبيرة للموضوعات الحيوية.
من يهبط علينا اليوم، ويتابع ما يشغلنا، محاولاً تقصى أولوياتنا، سيعتقد أننا قوم انتهينا من حل قضايانا كافة، وأنجزنا معظم مهامنا، ولم يبق لنا سوى «جنس إيناس» و«حجاب شريف»، و«رقصة نبيلة».