كانت القارة العجوز- ولاتزال- حلما يراود الكثيرين ممن يأملون في تحسين مستوى أو نمط حياتهم من أبناء الجنوب، لاسيما من دول قارتي أفريقيا وآسيا. خاصة في ظل ما يحمله حلم الهجرة إلى هذه القارة من وعود بمستوى حياة أفضل وحريات أكبر وأكثر رحابة. ورغم مقبولية الرغبة في الهجرة لأوروبا بين العديدين من أبناء الجنوب، فإن الأمر يصبح عصيا على الفهم مع استعداد الآلاف للمجازفة والتضحية بحياتهم مقابل الوصول لأرض الأحلام الأوروبية.
بيد أن الأكثر جدلا في هذا السياق هو الموقف الملتبس للعديد من الدول الأوروبية إزاء ضحايا الهجرة غير الشرعية الذي يقضون على تخوم القارة العجوز. وهو ما تجلى خلال الفترة الماضية مع تكرار حوادث غرق سفن تحمل مهاجرين غير شرعيين إلى أوروبا، فقد شهد شهر إبريل الماضي وحده عددا من الحوادث المريعة منها غرق سفينة تحمل على متنها أكثر من 300 مهاجر غير شرعي قرب سواحل اليونان، ليليها بأيام قليلة مقتل نحو 800 مهاجر غير شرعي عند غرق سفينتهم قبالة السواحل الليبية.
تمدد حجم الظاهرة
تزايد خلال الأعوام القليلة الماضية تدفق المهاجرين غير الرسميين أو غير الشرعيين إلى أوروبا انطلاقاً من سواحل الدول الأفريقية المطلة على الساحل الجنوبي للمتوسط خاصة ليبيا، وذلك باستخدام قوارب لا تحمل أدنى مقومات السلامة والأمان، الأمر الذي يزيد من فرص وقوع ضحايا في حال تعرض تلك القوارب إلى أي حوادث وهو أمر متكرر الحدوث، إذ تتراوح تقديرات أعداد ضحايا رحلات «الموت» بين ضفتي المتوسط منذ مطلع العام الجاري بين 1600 و1750 شخصا، الأمر الذي جعل منظـــمة الهجرة الدوليـــة تصف قتـــلى العام 2015 غرقا حتــى الآن بأنها أكـــثر 30 مرة ممّا كانت عليــه في نفس التوقيت من العام الماضي. محذرة من أن تزيد أعداد الضحايا عن 30 ألف قتيل مع نهاية هذا العام. وهو ما يبدو أمرا كارثيا لاسيما أن المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة تتوقع أن يحاول نصف مليون مهاجر غير شرعي عبور المتوسط نحو القارة العجوز العام الجاري.
الأوروبيون والتعامل مع الضحايا
أعلن الاتحاد الأوروبي أن طاقات بلدانه الاستيعابية تسمح باستقبال نحو عشرة آلاف مهاجر غير شرعي سنويا، وهو رقم يبدو ضئيلا جدا في مواجهة الحجم الفعلي لظاهرة المهاجرين غير الشرعيين للقارة العجوز، فإيطاليا وحدها- وفق توقعات وزارة الداخلية- تتوقع وصول نحو خمسة آلاف مهاجر غير شرعي أسبوعيا حتى شهر سبتمبر المقبل إلى سواحلها ما يعني وصول نحو مائتي ألف منهم إلى إيطاليا وحدها خلال العام الجاري. ويمكن من خلال متابعة تعامل ساسة القارة الأوروبية مع هذه الفجوة القول بأن قدرا كبيرا من البراجماتية يسم السلوك الأوروبي على نحو تتراجع معه العديد من ادعاءات المثالية ومركزية حقوق الإنسان في منظومة القيم الحاكمة للسياسات الأوروبية.
فمن ناحية أولى، لايزال ماثلا في الأذهان قيام إيطاليا العام الماضي بإيقاف عمل مهمة إنقاذ بحري، كانت قد أنقذت أرواحا بنحو أكثر من مائة ألف مهاجر، وذلك بحجة أن الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي رفضت تمويلها، وحلت مكان المهمة بعثة أوروبية أصغر ركزت على أعمال الدورية على حدود دول الاتحاد بعد أن قالت بعض الدول الأوروبية إن إنقاذ المهاجرين يشجع المزيد على القيام بالرحلة.
ولم تمنح الآثار السلبية لهذا التوجه الأوروبي مع ما حدث في أعقاب حادث غرق ما يزيد على 800 شخص قبالة السواحل الأوروبية، حيث أقر الاتحاد الأوروبي- في اجتماع طارئ لقادة دوله- استراتيجية للحد من الهجرة غير الشرعية إلى سواحله عبر البحر الأبيض المتوسط، ووضع الاتحاد الأوروبي خطة لمضاعفة حجم مهمة البحث التي يقوم بها في البحر المتوسط إلى ثلاثة أمثالها دون توضيح إجراءاته بخصوص خطط إنقاذ حياة المهاجرين وحصول الفارين من الحرب على فرصة لمنحهم اللجوء الإنساني أو السياسي. وفي السياق ذاته، أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تخصيص حاملة طائرات هليكوبتر تتبع البحرية البريطانية وسفينتين لهذه المهمة. بيد أن العديد من المراقبين يفسرون قرار كاميرون في هذا الصدد في ظل الاستحقاقات السياسية، حيث يخوض انتخابات ضد قوى اليمين التي تقوم سياساتها على مناهضة الهجرة للبلاد. وهو ما يتأكد في ظل حقيقة أن كاميرون رفض دعم هذه المهمة سابقا خوفا من أن تغري مزيدا من الناس بمحاولة عبور البحر، كما أنه شدد على أن من يتم انتشالهم لن يمنحوا اللجوء بشكل تلقائي في بريطانيا وسيتم على الأغلب تسليمهم لإيطاليا.
كما ناقش القادة خطة عمل من عشر نقاط، تصدرها رصد 120 مليون يورو سنويا لتمويل الدوريات البحرية وإرسال سفن حربية ومدنية ومروحيات إلى سواحل دول الجنوب لرصد حركة الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من مياهها. وركزت المباحثات الأوروبية على إمكانية القيام بعمليات عسكرية ضد المتاجرين بالبشر عبر البحر المتوسط لرصد زوارقهم وتدميرها قبل استخدامها، خصوصا تلك التي تنطلق من السواحل الليبية. وفي ظل غياب موافقة صريحة من دول الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، أعلنت فرنسا وبريطانيا عزمهما طرح مشروع قرار على مجلس الأمن الدولي يقضي بتدمير السفن التابعة لمهربي المهاجرين غير الشرعيين.
من ناحية أخرى، تتجه العواصم الأوروبية المعنية إلى تحريك إجراءات قانونية في حق من يعتقد بتورطهم في أعمال الهجرة غير الشرعية، فقد أصدرت محكمة إيطالية، يوم 24 إبريل الماضي أمرا بحبس مواطن تونسي يعتقد أنه ربان سفينة المهاجرين التي غرقت قبالة الساحل الليبي مما أسفر عن مقتل أكثر من 700 شخص، حيث وجهت إليه تهما بالخطف والقتل المتعدد وتسهيل الهجرة السرية.
تصاعد حدة الانتقادات.. دوليا وذاتيا
كانت التوجهات الأوروبية تجاه ضحايا الهجرة غير الشرعية محلا للعديد من الانتقادات، على مستويات عدة، فعلى صعيد المجتمع الدولي حث بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، الدول الأوروبية على عدم اللجوء إلى الحل العسكري. مؤكدا ضرورة وجود مقاربة دولية تراعي جذور المشكلة، والأمن وحقوق الانسان للمهاجرين واللاجئين. وانتقدت الأمم المتحدة رد الفعل الأوروبي ودعت الاتحاد لبذل المزيد من الجهود قائلة إنه ينبغي أن يتجاوز رد فعل الاتحاد النهج الحالي الذي يقوم على الحد الأدنى، والذي يركز بشكل أساسي على الحد من وصول المهاجرين واللاجئين إلى شواطئه.
أما على المستوى الأوروبي الرسمي، فقد اعترف رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي بأن الأوروبيين يخاطرون بمصداقيتهم إن لم يتحركوا لوقف كوارث غرق المهاجرين المتوجهين نحو أوروبا. ورغم مصـــادقة أوروبا على خطــــة تتضــــمن 13 مقــترحا للتعـــامل مع الضغط الناجم عــن الهجرة غير الشرعية فإن المشـــكلات العملية والقانونية والســـياسية الناجــمة عن القيام بعمل عسكري في ليبيا أو حتى إقامــــة «مراكز استقبال» في الخارج أو حتى إعادة توزيع اللاجئين في دول الاتحاد الأوروبي مازالت بعيدة عن الحل وغير قابلة للتطبيق بسبب تلكؤ كل دولة أوروبية على حدة وإلقاء الكرة في ملعب الدول الأخرى.
وفيما يخص الداخل غير الرسمي، فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد أودوكسا للدراسات مؤخرا، أن ٦٦٪ من الفرنسيين لا يثقون في إجراءات الاتحاد الأوروبي لوقف غرق مراكب تهريب البشر في البحر المتوسط. لاسيما أن منظمات حقوق الإنسان كانت قد وجهت انتقادات حادة لقرار الاتحاد إيقاف عملية «ماري نوستورم»، وهي عملية المراقبة والنجدة الإيطالية في المياه الدولية بالبحر المتوسط التي سبقت الإشارة، بحجة ميزانيتها العالية التي بلغت تسعة ملايين يورو شهريا، حيث تركزت الانتقادات الحقوقية في هذا السياق على أعداد الضحايا الذين تستهدفهم هذه العمليات، فقد تمكنت عملية «ماري نوستروم» الإيطالية من إنقاذ أكثر من 140 ألف مهاجر خلال عام واحد، في حين بلغ عدد من تم إنقاذهم ضمن عملية «تريتون» الأورربية التي حلت محلها خلال ستة أشهر 24 ألف مهاجر فقط.
إجمالا، يرى المراقبون أن الفزعة التي تعرض لها الضمير الأوروبي على خلفية الحوادث الأخيرة لم تسفر سوى عن قرارات محدودة، معنية في مجملها بتشديد المراقبة البحرية، وتعزيز آليات الإنقاذ، واستهداف شبكات تهريب المهاجرين في شمال أفريقيا، وإن على الاتحاد أن يتجاوز فرض العقوبات على اللاجئين والدول التي يأتون منها.