عندما قرر طلعت حرب باشا إنشاء شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، كان الرجل يدرك أنه بصدد إنشاء صناعة استراتيجية وليس مجرد بناء مصنع، لذلك وضع الرجل كل شىء فى الحسبان حتى حساب نسبة الرطوبة فى مدينة المحلة الكبرى، والتى وجدها الأقل فى الدلتا، بما يتناسب مع الصناعة، أما ما آل إليه الوضع الآن، فيختلف تمامًا عن بدايته، ففيما تحذر النقابات العمالية من قرارات بعينها سيؤثر اتخاذها على صناعة الغزل والنسيج، سواء فى القطاع الحكومى أو الخاص، تلجأ الحكومة لاتخاذ القرارات نفسها دون أن تعير القائمين على الصناعة اهتمامًا.
من بين هذه القرارات ما اتخذته وزارة المالية مؤخرًا من تغيير الأسعار الاسترشادية على منتجات الغزل والنسيج، ما سيؤدى إلى تخفيض الجمارك على هذه المنتجات بنسبة تصل إلى 22%، رغم مطالب النقابات العمالية وأصحاب المصانع وشركات قطاع الأعمال الخاصة بالغزل والنسيج، زيادة الجمارك المفروضة على هذه المنتجات.
وقال إبراهيم بدير، المفوض العام لشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى: «كان من المفترض أن يصدروا قرارا بمنع استيراد القطن والغزول، خدمة لصناعة الغزل والنسيج ولمحصول القطن المصرى، بدلًا من إصدار هذا القرار». وأضاف: «العمل بالأقطان المصرية يؤدى إلى زيادة التصدير، لأن القطن المصرى مطلوب، سواء كان غزولا أو قماشا، كما أن تشغيل الغزول المصرية سيؤدى إلى إقبال الفلاح مرة أخرى على زراعة القطن، وتوفير العملة الصعبة التى يتم شراء القطن المستورد بها».
وتابع المفوض العام لشركة غزل المحلة: «القرار سيؤثر على مصانع القطاع الخاص والعام، الشركة تصدر منتجاتها لكن صادرتها مقارنة بالصادرات حتى 2007 تمثل 50%، وهذا القرار سيقلل من صادراتنا أكثر».
فى نفس السياق يقول أحمد الصاوى، رئيس مجلس إدارة شركة غزل كفر الدوار: «جاء القرار على عكس ما كنا نتمنى، وعندما تمت مناقشة رئيس الوزراء فيه، قال هذه فئة من التجار، ولا أستطيع أن أقف ضد مصالحها، وهى نظرة محدودة، كيف يمكن تفضيل مصلحة المستوردين على مصلحة الصناعة المصرية». وأضاف الصاوى: «القرار مخالف لتوصيات رئيس الوزراء نفسه الذى أمر بعقد مؤتمر موسع بحضور وزراء اللجنة الاقتصادية لتفعيل صناعة الغزل، وحضرت فيه مع رؤساء شركات الغزل والنسيج ورئيس الشركة القابضة، وقلنا فيه إنه يجب رفع الرسوم على الأقمشة والملابس الجاهزة لنحد من الاستيراد، لأن الدول الأخرى تدعم صادراتها، وبالتالى تصل منتجاتها هنا بأسعار لا نستطيع منافستها ما يؤثر على الاقتصاد المصرى».
أما محمد سند، رئيس نقابة عمال غزل المحلة، فأكد أن قرار تخفيض الجمارك بنسبة 22% معناه «غلق الباب» فى وجه شركات الغزل والنسيج، لأن «المنتج المستورد من شرق آسيا سيكون أكثر قدرة على منافسة المنتج المحلى».
وأضاف سند: «يجب فرض رسوم حماية على الصناعة، وهذا من حق الدولة المصرية للحفاظ على صناعتها ومنتجاتها، وعدم فرض ذلك يجعل المنتج المستورد أرخص منى، بمعنى أن كيلو الغزل مثلًا أنتجه بـ30 جنيها، المستورد يعرضه بـ24 جنيها، فالطبيعى أن منتجى لن يجد مشترين».
القطن وتحرير سعره من قبل الحكومة من أهم أسباب تدهور صناعة الغزل والنسيج، التى تعد واحدة من أكبر الصناعات كثيفة العمالة فى مصر. يقول إيهاب شلبى، من القيادات العمالية بشركة غزل شبين: «عندما صدر قرار الحكومة برفع الدعم عن الغزل والنسيج فى 1991 أدى إلى انهيار مصانع كبيرة، مصنع غزل المحلة على سبيل المثال، كان يستهلك فى 1990 مليون قنطار قطن، عندما تحرر سعر القطن زاد 100 جنيه، وهذا معناه أنه زاد على ميزانية غزل المحلة فى هذا العام وحده 100 مليون جنيه، ولذلك تعانى شركة غزل المحلة من أزمات».
ويضيف شلبى: «القطن المصرى طويل التيلة ولكن التكنولوجيا الصناعية فى مصر تعمل بالقصير والمتوسط فقط، وبالتالى لا بد من زراعة هذين النوعين من القطن، فى 1996 كنا بدأنا فى زرع أقطان أمريكية وهندية مهجنة مع القطن المصرى، لكن الأمر توقف».
ويقول أحمد الصاوى، رئيس شركة غزل كفر الدوار: «الغزل والنسيج كان يمثل 25% من قيمة الصادرات المصرية، الآن هذه النسبة لا تتجاوز 6%، وهذا يرجع لأسباب متعددة من بينها القطن، المحصول الرئيسى لصناعة الغزل، فى الماضى كانت هناك خطة لزراعة القطن تحدد أماكن وكميات قصير التيلة، وكذلك طويل التيلة، وكان معروف إنتاجنا من القطن فى العام سيكون كم قنطار، وهذا غير موجود الآن، الزراعة غير قادرة على توفير احتياجاتنا من القطن، لذا نلجأ للاستيراد، لأنه لا توجد خطة موضوعة لزراعة القطن».
ويضيف الصاوى: «فى الماضى كان معروفا أن موسم القطن هو موسم الخير للفلاح، فيه يشترى الذهب ويزوج أبنائه، اليوم الوضع اختلف بسبب عدم وجود خطة لزراعة القطن وتحرير أسعاره، الفلاحون يقبلون على زراعة القطن فى عام، وبحكم العرض والطلب ينخفض سعره، فيحجم الفلاح عن زراعته فى العام التالى».
وتابع الصاوى: «الموسم الماضى، الحكومة قامت بخطوة إيجابية عندما دعمت قنطار القطن بمبلغ 350 جنيه من الشركة القابضة ووزارة الاستثمار، واشترته الشركات بـ920 جنيه، كان هذا طفرة، وشركة غزل كفر الدوار عملت لمدة 5 شهور دون أن تتوقف لحظة لأن القطن كان متوفر عندى وكان مدعوم».
وأعلنت الحكومة المصرية تحرير تجارة القطن فى 1994، ما أدى إلى ارتفاع سعر قنطار القطن المحلى، وانخفضت مساحة الأرض المزروعة قطنًا بشكل كبير بسبب إحجام الفلاحين عن زراعته خوفًا من الخسارة، كما انخفضت إنتاجية فدان القطن المصرى من 13 قنطار إلى 3.8 قنطار فقط فى الموسم.
ويضيف الصاوى: «المواد الخام غير كافية للعملية الإنتاجية، فى الـ5 شهور الأولى قفز إنتاج المصنع إلى 20 طن يوميًا وكنا نستهدف خطة إنتاجية تصل إلى 30 طن يومى، لأن القطن كان متوفراً، حاليًا إنتاجنا انخفض إلى 14 طن، بسبب عدم وجود القطن، وانتظارنا المركب الذى ينقل القطن المستورد. رئيس الشركة القابضة وافق على شراء 6 ماكينات حديثة لشركة غزل كفر الدوار، ولكن حتى بعد شرائها لن نستطيع الوصول بإنتاج المصنع إلى 20 طنا، بسبب عدم توافر المواد الخام، من قطن وحرير وغيرهما».
أما محمد سند، رئيس نقابة عمال غزل المحلة، يقول: «نحن كعمال نذهب للعمل يوميًا، ونقوم بما هو مطلوب منا، لكن لا توجد مواد خام كافية للعمل، ولا توجد سيولة، والبنوك ترفض منحنا قروض بضمان الصناعة كى نعمل بها، لذا نطالب رئيس الوزراء بضخ استثمارات فى قطاع الغزل والنسيج عامة، وشركة غزل المحلة خاصة، لأننى أستشعر خطراً على هذه الصناعة، علمًا بأنها من أهم الصناعات جذبًا للعمالة (يعمل بها الآن بشكل مباشر مليون و200 ألف عامل)، وأثبتت دورها فى دعم الاقتصاد فى العديد من الدول التى اهتمت بها لدرجة أنها أقامت وزارة خاصة بها، مثل الهند، لذلك طالبنا أكثر من مرة أيضًا بإنشاء وزارة للغزل والنسيج، ونرى فيها حلًا مثاليًا لمشاكل هذه الصناعة».
كما أكد أحمد الصياد، رئيس مجلس إدارة شركة غزل كفر الدوار، أن التهريب من أهم المشاكل التى تواجه صناعة الغزل والنسيج: «هناك من يهربون الملابس والغزول داخل سلع أخرى فى حاويات مستوردة من الخارج، كما أن عمليات التهريب زادت بعد وجود المناطق الحرة ونظام السماح المؤقت والدروباك».
أما جمال عبدالناصر، رئيس اللجنة النقابية للعاملين بالغزل والنسيج بالقطاع الخاص، فقال إن «تهريب الأقمشة والغزول إلى السوق المصرية يتم بشكل منتظم، ويؤدى إلى عدم قدرة الشركات على تصريف منتجاتها محليًا، لأن البضائع المهربة لا يتم تحصيل أى ضرائب أو جمارك عليها، وهو ما يجعلها تناقس حتى المنتجات المستوردة بشكل قانونى، كما تنافس المنتج المحلى بشكل أخطر».
وأشار «عبدالناصر» إلى استخدام نظامى السماح المؤقت و«الدروباك» فى عمليات التهريب، وهما نظامين لاستيراد مواد لإعادة تصنيعها فى مصر وتصديرها مرة أخرى، دون أن يفرض عليها جمارك أو ضرائب، وقال: «لا يوجد أى نوع من الرقابة الجادة من قبل الحكومة على هذا النظام، ويقوم المتعاملين به بالتلاعب فى الكميات المعاد تصديرها وتحويل جزء كبير منها إلى السوق المحلية وهى معفاة من الجمارك، وهذا التلاعب يتم بحجج كثيرة من بينها نسبة الهالك بالنسبة لمصانع التفصيل، حيث تصل إلى 50% وهى نسبة مبالغ فيها».
وطالب عبدالناصر الدولة بالقيام بدورها فى مكافحة التهريب بشكل حاسم، وإعادة النظر فى نظام السمائح المؤقت والدروباك، بأن يتم تحصيل الرسوم الجمركية والضرائب عند وصول البضائع، ثم يتم ردها حين التصدير، وبعد التأكد من سلامة العملية، وأشار إلى أن التهريب يؤدى إلى زيادة نسبة البطالة وخطر توقف المصانع نهائيًا أو جزئيًا.