(1)
فى مقالنا، الأول، الاستهلالى، حول الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية، قدمنا مدخلا للموضوع يعكس أولا: تاريخية جهاز الإدارة المصرية ومدى ارتباطه ببزوغ الدولة المصرية، من جهة. وكيف استطاع هذا الجهاز على مدى العصور أن يكتسب دورا مؤثراـ سلبا وإيجاباـ فى حياة المصريين، من جهة أخرى. أخذا فى الاعتبار تعاقب أنظمة حكم وافدة بداية من البطلمية مرورا بالرومانية للطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية. ثم ما يمكن اعتباره نقطة تحول هامة مع محمد على بتطبيقه لائحة السيستنامة كإطار منظم لأمور كثيرة بما فيها الجهاز الإدارى كأحد أعمدة الدولة الحديثة المصرية الثلاثة، إلى جانب الجيش الوطنى ومؤسسات الحداثة. كما حاول مقالنا أن يعكس ثانيا: مدى اعتلال صحة الجهاز الإدارى المصرى من خلال استدعاء عدد من المقتطفات الإبداعية تلخص ملاحظات كبار مثقفى مصر الذين انخرطوا فى العمل فى جسم البيروقراطية المصرية مثل: أحمد لطفى السيد، يحيى حقى، وتوفيق الحكيم، حول ملامح هذا الاعتلال منذ وقت مبكر. حيث من يقرأ هذه المقتطفات المبكرة دون علم بتاريخ كتابتها سوف يشعر أنها تعبر عن وقتنا الحالى. ما يعنى سوء حال البيروقراطية المصرية وتردى أحوالها.. والسؤال ما سبب ذلك؟
(2)
يمكن الإجابة عن ذلك من خلال عنوانين كبيرين هما: الأول تعاقب الأنظمة الاقتصادية على مصر، وأثر هذا التعاقب على تشوه الجهاز الإدارى المصرى. والثانى اتسام هذا الجهاز بعدد من السمات منذ التأسيس ـ أى من وقت الفراعنة ـ ظلت عالقة به ومرافقة له عبر التاريخ دون تطوير يواكب المستجدات المجتمعية.. ونحاول أن نفسر ما سبق كما يلى:
(3)
أولا: بالنسبة لتعاقب الأنظمة الاقتصادية على مصر؛ نشير إلى أن مصر تعرف فى الأدبيات المعتبرة على أنها تنتمى إلى ما يعرف «بالنمط الآسيوى للنتاج». حيث يتسم هذا النمط بالمركزية الشديدة لخدمة حيث يكون دور الحكومة الاستراتيجى هو إدارة شبكة الرى بواسطة منظومة كاملة من الأشغال العامة. وفى نفس الوقت تضاؤل الملكية الخاصة وتمركزها فى أيدى قلة حاكمة تخدمها بيروقراطية موالية. بالإضافة إلى ما سبق، والذى ظل قائما، عرفت مصر اقتصادات متعاقبة مع أنظمة الحكم الوافدة وعليه طرأت على الجهاز الإدارى «تحورات» تتناسب مع هذه الاقتصادات. بيد أن مواكبة الجهاز الإدارى للطبيعة الاقتصادية للسلطة الجديدة قد «شوه» البيروقراطية فى المحصلة. ولنتخيل كم من نمط اقتصادى عرفته مصر فى أوقات متقاربة لنعرف ما الذى جرى للجهاز الإدارى. هناك أولا الاقتصاد المائى المركزى المصرى، والاقتصاد البحرى التجارى، والبدوى/ الفتحى (بحسب الراحل نزيه نصيف الأيوبى أحد علماء مصر المنسيين)، والقرابى/ الإقطاعى الأموى، والإقطاعى/ التجارى العباسى، والعسكرى الإقطاعى العثمانى،...، إلخ. فلقد كان على الجهاز الإدارى أن يغير من نفسه كى يتوافق مع الاقتصاد الجديد الوافد مع ضرورة أن يحافظ على طبيعته الأولى.. وأظن أن هذا الأمر قد أصابه بتشوهات بنيوية معقدة بفعل الاقتصادى وتجلياته الثقافية والاجتماعية، وأثر كل ذلك على إعاقة تقدم مصر ومعاناة المصريين. ونلفت النظر إلى أن هذه السلطات الحاكمة الوافدة كانت تعامل المصريين كمحكومين مأسورين لخدمتهم لا كمواطنين يشاركون فى حكم وطنهم (بحسب وليم سليمان قلادة). وكان جل هدف هذه السلطات جمع المال من المصريين. لذا عرفهم سمير أمين «بالأنظمة الإتاوية»( من إتاوة). وكان الجهاز الإدارى هو المعنىّ بالتنفيذ.
(4)
ثانيا: أما بالنسبة لسمات الجهاز الإدارى التى ولدت مع تأسيسه وقت الفراعنة؛ فإنه يمكن أن نقول إنها كانت ترتبط بنمط الاقتصاد السائد وطبيعة سلطة الحكم القائم. وعليه اتسم هذا الجهاز بالسمات التالية: المركزية الشديدة، الولائية المطلقة للسلطة (الطاعة)، النمطية، التحايل والمناورة، الغموض والتكتم على «الأسرار المقدسة للبيروقراطية» Secret Joys of Bureaucracy؛ فلا تخرج خارج كهنتها أو حراسها.. وربما تكون هذه السمات منطقية عند تأسيس الجهاز الإدارى، أى فى «الزمانات»، لكنها ـ قطعا ـ باتت عبئا على حيويته، وعائقا على أداء الجهاز لدوريه الرئيسيين: التنموى، والمدنى، تجاه المواطنين، ومن ثم قدرته على مواكبة التطورات التى تطرأ على الواقع المجتمعى من جانب، وتلبية تطلعات المواطنين التى تتنامى مع التطور المجتمعى نتيجة تعقد عملية التطور من جانب آخر. ولتقريب الفكرة، فمن غير المعقول أن يكون المواطنون يعيشون بإيقاع ثورة الاتصالات ولم يزل الجهاز الإدارى يعمل بمنطق عصر البخار. أو بلغة أخرى ليس طبيعيا أن يكون العالم فى حالة تواصل إلكترونى والجهاز الإدارى لم يزل يتواصل بطريقة الحمام الزاجل أو التسليم مع مخصوص!!
(5)
بالطبع يحتاج الأمر إلى مزيد من التفاصيل. ولكن ظنى أن أى محاولة لفك الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية لابد أن تدرك ما طرحناه تحت العنوانين الكبيرين السابقين. فتجديد البيروقراطية المصرية لن يتم من خلال إجراءات ولوائح، وإنما بالتغيير الجذرى الذى يعنى إحداث تنمية مركبة شاملة وتحول ديمقراطى عميق.. ونواصل...