شهدت المنطقة الحدودية بين مصر وقطاع غزة، بعد وصول حركة حماس لسدة الحكم فى 2008، وفرض نوع من الحصار الدولى على الشريط الضيق الذى لا يتجاوز أوسع مساحاته 48 كيلومتراً، ويعيش فيه ما يتجاوز مليوناً ونصف المليون فلسطينى، رواجاً هائلاً فى حركة تهريب البضائع وضرورات الحياة اليومية التى يحتاجها أهالى غزة من رفح المصرية إلى داخل القطاع،
لكن ذلك النوع من التهريب الذى يتم من خلال الأنفاق أو عبر الشريط الحدودى، يعتبره «حسن» الشاب البدوى، «تهريباً من أجل هدف نبيل» - على حد تعبيره - وهو يقود إحدى الشاحنات المحملة بالماعز فى طريقها إلى مدينة رفح الحدودية شمال سيناء، ويعتبر هذا الشاب الذى لم يتجاوز عمره 30 سنة، واحداً من العشرات الذين امتهنوا ذلك النشاط الخفى الذى يجرى بين مدينتى رفح وقطاع غزة.
يؤمن «حسن» بما يقوم به ويراه عملاً رائعاً، فهذه الأغنام التى يقوم بتهريبها إلى داخل قطاع غزة - على حد تعبيره - «سوف تفيد الفلسطينيين هناك، وتفيدنا نحن أيضاً هنا، ولكن النوع الآخر من التهريب أكرهه وأحاربه»، يشير «حسن» هنا إلى تهريب اللاجئين الأفارقة والنازحين الذين يعبرون الحدود المصرية للوصول إلى إسرائيل، تلك الحدود الواقعة على بعد 10 كيلومترات جنوب رفح وتمتد بطول 238 كيلومتراً، والتى تنتعش بطولها عمليات الاتجار فى البشر الساعين إلى اختراق الأمن الحدودى لإسرائيل.
مئات من النازحين وطالبى اللجوء يقومون بتلك الرحلة كل يوم، حتى إن تقديرات المنظمات غير الحكومية فى إسرائيل تقول إن ما لا يقل عن 13 ألفاً من هؤلاء المتسللين عبروا الحدود منذ عام 2006.
«يوسف»، شاب إثيوبى لم تتعد سنوات عمره 18 سنة، كان أحد ضحايا تلك التجارة، وتبدأ قصته بحسب روايته، عندما ترك وطنه منذ عامين بحثاً عن حياة أفضل فى مدينة «بورسودان» شرق العاصمة السودانية «الخرطوم»، وبعد أن حصل على فرصة للعمل، عرض عليه أحد السودانيين مساعدته فى الذهاب إلى مصر للعمل فى شركة هناك، ثم التوجه من مصر لإسرائيل بعد ذلك.
التقته «المصرى اليوم» وهو يجلس فى مؤخرة شاحنة تقف أسفل شجرة فى الصحراء الشاسعة على بعد 5 كيلومترات من حدود إسرائيل فى وقت متأخر من الليل، حيث إن الشخص الذى كان ينوى تهريبه لم يستطع التحرك به حتى حل الظلام.
وجد «يوسف» عرض الرجل السودانى مغرياً، فقرر خوض التجربة، ليتم نقله مع نازحين آخرين بلغ عددهم 15 شخصاً، إلى «كسلا» شرق السودان، حيث قاموا بتغيير السيارة التى يستقلونها واستبدلوها بشاحنة أخذتهم بدورها إلى منطقة «حلفا» القديمة للوصول إلى سيناء، يستمر «يوسف» فى سرد روايته، ويشير إلى عطل السيارة ونفاد المياه منهم.
لم يجد «يوسف» لحظة وصوله إلى سيناء أيا من الوعود التى وعده بها الرجل السودانى، فلا شركة فى انتظاره ولا زملاء عمل، وتمر 3 أشهر كاملة فى انتظار ما قد لا يأتى، ويفاجأ الشاب الذى لم يكمل عقده الثانى بالمهربين يطالبونه بـ3500 دولار، لكى يتمكن من العبور إلى داخل إسرائيل، لكن تلك المطالب تتحول إلى ضغوط شديدة حتى إن هؤلاء المهربين قاموا بتعليقه وزملائه فى الأشجار باستخدام سلاسل حديدية تحت أشعة الشمس، ويقضون حاجتهم فى أكياس بلاستيكية، ولا يتناولون سوى قطعتين من الخبز يومياً.
استطاع «يوسف» فى النهاية الهروب من آسريه، ليلتقى وهو هائم فى الصحراء بمهربين آخرين، لكنه هذه المرة يأمل فى أن ينجح فيما فشل فيه فى السابق ويعبر الحدود المصرية إلى داخل إسرائيل.
«على»، فتى إثيوبى آخر لم تتعد سنوات عمره 16 سنة، يعيش فى السودان، يحكى لـ«المصرى اليوم» عن تجربته فيقول: «اعتدت نقل حطب الوقود على عربات تجرها الحمير، حين توفى أبى تحملت مسؤولية أمى وأشقائى الاثنين، إلى أن جاء أحد المهربين ذات يوم، وعرض علىّ مساعدتى فى السفر إلى أى مكان لأربعة أو خمسة أشهر والعودة بمبلغ كاف لافتتاح محل لبيع الخضروات»، ومثلما كان الحال مع «يوسف»، يحصل على توصيلة مجانية إلى سيناء.
فى سيناء، تتكرر مأساة «يوسف» مرة أخرى ويضطر «على» إلى دفع 3500 دولار من أجل العبور إلى إسرائيل بعد تعرضه للضرب بشكل يومى، يستطرد «على» فى سرد حكايته وعينيه مثبتتين على الحدود القريبة، وأضواء مدينة «بئر سبع» الإسرائيلية: «أريد الذهاب إلى هناك.. ذلك المكان أفضل من هنا.. أنا لست خائفاً من الذهاب».
كان من الطبيعى أن نسعى للقاء أحد المهربين الذين وصفهم «حسن»، مُهربنا البدوى الذى يكتفى بتهريب البضائع والأغنام إلى داخل قطاع غزة، بـ«تجار البشر»، وبالفعل التقينا أحدهم الذى كانت له نظريته هو الآخر فى تبرير ما يقوم به، فلم يكن مفاجئاً لنا أن يقول شاب فى الواحدة والعشرين من عمره، يحمل اسم «وليد» كاسم حركى، إنه لا يشعر بأنه يرتكب خطأ لأنه يأخذ الأموال من الناس مقابل مساعدتهم فى الوصول إلى إسرائيل دون أن يؤذيهم، كما أن العمل الذى يقوم به «وليد» أقل تعقيداً من غيره،
فهو يمتلك مساعداً فى القاهرة يقوم بالبحث عن اللاجئين المقيمين فى القاهرة بالفعل، والمهتمين بالذهاب إلى إسرائيل، وحين يصل هؤلاء إلى جسر السلام الذى يمر فوق قناة السويس، يقوم هو بإرسال شاحنات لنقلهم إلى النقاط التى سيرحلون منها، وهى عبارة عن بقعة فى الصحراء على بعد 10 كيلومترات من رفح.
يستضيف «وليد» زبائنه من الراغبين فى السفر إلى إسرائيل فى بيت من الطين توضع فيه المراتب على الأرض قريبة من بعضها البعض تحسباً لمجىء عدد آخر من النازحين فى الصباح التالى، يقول «وليد» وهو يشير باستمرار إلى الشريط الحدودى الواقع على بعد 4 كيلومترات:
«هناك 6 أشخاص يعبرون فى المرة الواحدة، غالباً ما يصلون فى الصباح ويرحلون عند مغيب الشمس، لكننى لا أصادر جوازات سفرهم أو أى شىء آخر، وحين يأتى وقت الرحيل أتأكد من أن الطريق خال تماماً، وعادة ما نختار الجزء الواقع بين نقطتين أمنيتين على الحدود، فأرسلهم واحداً تلو الآخر، وأقوم بقطع جزء صغير من السلك الشائك باستخدام السكين ثم أطلب منهم العبور فى هدوء.. الأمر برمته لا يستغرق سوى دقيقة واحدة».
وحول الجدوى المادية التى تستدعى قيامه بمثل تلك المخاطرة، يقول «وليد» إن المسافر ينفق حوالى 300 دولار نصفهم يذهب للسائق والنصف الآخر من نصيبه، ويشير إلى أن ذلك المبلغ يكون جيداً مع تكرار تلك العملية 3 مرات أسبوعياً.
لا يحب «وليد» - بحسب تعبيره - العمليات الكبيرة التى تضم أعداداً كبيرة من المسافرين - كما يصفهم - لأنها معقدة وتعتمد على العنف أحياناً، كما أنها غير مضمونة لأن معظم الأفارقة لا يملكون المال الكافى لدفعه للمهربين، مؤكداً أن مهمته أسهل وأسرع.
من الطبيعى أن يلحق الكثير من الفشل بمثل تلك النوعية من عمليات التهريب، خاصة فى ظل ما ترصده وسائل الإعلام بشكل يومى من عمليات إطلاق النار على هؤلاء النازحين من جانب قوات حرس الحدود المصرية، حيث قتل حوالى 33 مهاجراً وجرح المئات، بالإضافة بالطبع إلى اعتقال العشرات منهم.
وعلى الرغم من أن المنظمات الحقوقية فى مصر والخارج، دائماً ما تعبر عن انتقادها لاستخدام القوة من الجانب المصرى، حيث نشرت منظمة «هيومان رايتس ووتش»، تقريراً فى 90 صفحة، تناول الثغرات الخاصة بتدابير الحماية فيما يتعلق بالنازحين الذين يعبرون من مصر إلى إسرائيل، واستشهد بعمليات إطلاق النار من جانب الشرطة والترحيل الإجبارى،
مشيراً إلى أن كل تلك الأمور تعد خرقاً لقوانين حقوق الإنسان المصرية، إلا أن اللواء محمد شوشة، محافظ شمال سيناء، يعتبر عمليات إطلاق النار المتكررة تصرفاً طبيعياً وضرورة من أجل الحفاظ على أمن الحدود المصرية، خاصة أن النازحين الأفارقة غالباً ما يرفضون الانصياع إلى أوامر قوات الشرطة بالتوقف عند رصد عمليات هروبهم.
ويشير «شوشة» إلى أنه لا يوجد بديل غير ذلك، فيقول: «لا يمكنك حماية حدود بنسبة 100٪، ولكنك تحميها ضد الهجمات الكبرى، وبالطبع لن تستطيع أن تجعل كل جندى ملاصقاً للآخر، فالمسألة صعبة عندنا بالذات لأننا فى منطقة جبلية، حيث يمكن أن يمر المتسلل من جانبك دون أن تتمكن من الإيقاع به».
لم يتوقف نضال صديقنا «حسن» البدوى، عند مجرد نقل البضائع إلى المحاصرين فى غزة، بل إنه يقوم بالمرور على المنازل القريبة لإقناع مهربى الأفارقة بترك نشاطهم، مناشداً حسهم الوطنى، معتبراً تلك العمليات جزءاً من المخطط الإسرائيلى لزيادة السكان، وفقدان العرب وظائفهم، وإعطاءها للنازحين الأفارقة، فيعملون فى مجال الزراعة والبناء، وبالتالى يسهم ذلك فى بناء دولة إسرائيل.