x

كنيسة الأرمن الأرثوذوكس بالإسكندرية.. على الأرض من ملكوت السماء سلام

الجمعة 24-04-2015 15:11 | كتب: صفاء سرور |
كنيسة الأرمن   كنيسة الأرمن تصوير : محمود نصر

هواء بارد النسمات ينساب من فَسَحة المكان إلى رئتيك، بينما عينيك تتفحص وحدات خرسانية يدنو حُسن معمارها العتيق من الكمال، وتتنافس لخطف بصرك الحائر بينها، كل هذا وروحك تشعر بتخفف من حمول وتتزود بشيء من سَكَينة صمت يبدو هنا اعتياديًا وفي محلّه، ولا يجرؤ أن يقطعه إلا بعضٌ من جمال يتسلل إلى أذنيك في هيئة ترانيم تحملها أصوات عذبة.

يحدث هذا كله متزامنًا في انسجام، وتتلقاه أنت من موضع وقوفك في ساحة واسعة تحتضنك، جسدًا وروحًا، أما عقلك فاختار في هذه اللحظة الانفصال لدقائق ليحاول فيها استيعاب كيفية اجتماع كل هذا في مساحة محدودة خاصة بكنيسة الأرمن الأرثوذوكس بالإسكندرية.

كنيسة الأرمن

إذا ما كان لك يومًا نصيب في بعض خطوات تحط بقدميك داخل حرم هذه الكنيسة، الخاصة بطائفة دينية يقوم على شؤونها حاليًا الأسقف أشود مناتسكانيان، فمن المحتمل والوارد جدًا أن يتطلب الأمر بعضًا من الوقت لتصديق أن لا شيئا يحتمي به سلام وجمال وروحانية هذا الملكوت السماوي من تفاصيل الحياة المادية الزائلة سوى سور وبوابة حديدية فقط، تفصلهم عن صخب شوارع المنطقة الشعبية.

في منطقة اللبان، السبع بنات قديمًا، سلّمنا الزقاق الضيق الذي جاورت فيه القطط أبواب وأخشاب يزيد تناثرها في جنباته من ضيق المساحة إلى شارع ممهد، بعد خطوات معدودة فيه وصلنا إلى 12 شارع البيضاوي، حيث عنوان مدينة أرمينية مصغّرة يطلق عليها اختصارًا لقب الكنيسة أو البطريركية، بينما هي مستقر لدار عبادة ومدرسة بل ومقبرة، جميعهم مقامون على أرض أهداها بوغوص بك يوسفيان أول وزير خارجية لمصر في العصر الحديث إلى أبناء طائفته من الأرمن في 1840.

الأرمن

يعرف المارة السكندريين في ذلك الشارع أن هذا المبنى لكنيسة، ويجهل أغلبهم ما يشاركها الحرم. بعبور البوابة تجد العينان قبالتها مبنى رخامي أحمر اللون على بعد أمتار، بالاقتراب منه يتبين نقش صورة نسر مماثل للموجود على علم أرمينيا يعلوه نقش صليب، وأدناهما كُتِبَ بالأرمينية ما معناه أن هذا الشيء نٌصب لشهداء مذابح الأرمن مدون عليه تاريخيّن الأول للمذبحة 1915، والثاني لافتتاحه 1965، في الذكرى الخمسين لها.

كنيسة الأرمن

قبل وصولك إلى النٌصب، إذا ما وليت وجهك يسارًا، ستلفت انتباهك بوابة حديدة تفصل مساحة صغيرة عن بقية ساحة البطريركية، حيت صنعت النباتات بساطًا أسفل ثلاث مبان رخامية بيضاء صغيرة مزينة بتماثيل بعضها لبشر والأخرى تشبه الموجودة في اللوحات التي تتناول عصر الإغريق، تستظل جميع هذه التماثيل بالأشجار، ليبدو المشهد مكتملاً وكأنه جزءا من متحف، تسأل فتعرف أن هذا المكان هو المثوى الأخير لشخصيات أرمينية، يعرف المصريون منها على الأقل نوبار باشا، أول رئيس وزارة في مصر، والمنسوب إليه ترعة النوبارية وشارع في وسط البلد بالقاهرة.

الأرمن

لن تبتعد عيناك عن مقبرة نوبار التي يدل عليها تمثاله، إلا لتنظر إلى مقبرة الأرميني الثاني بوغوص يوسفيان، وزير التجارة والخارجية الأول في عهد محمد على، منذ أتى مع الثاني إلى مصر وقت تعيينه واليًا عليها، و«يوسفيان» هو من أهدى تلك الأرض التي تحوى البطريركية وما جاورها من مبانٍ وقفًا لأهله الأرمن، ليوارى فيما بعد الثرى أسفل أشجار ورخام، في تلك البقعة الصغيرة من أرضه، مجاورًا لأرميني آخر كان محمد على عينه حاكمًا للسودان.

الأرمن

تضم أرض المدافن جثامين هؤلاء الأرمن الأرثوذوكس الثلاث، ولن تحتاج أن تبتعد عنها كثيرًا لترى الكنيسة التي يسمونها كنيسة «يوسفيان»، فهي ملاصقة للمدافن، وفيها لن تجد فقط الصلاة والقداسات والمواعظ، بل يمكنك سماع الترانيم وأنت داخل المدفن، صوتها هادئ كما ألوان زجاج نوافذ هذه الكنيسة التي يتسلل من خلالها للساحة والمدفن، لكن تظهر ألوان الزجاج مبهجة وتتضح أصوات الكورال عالية ذات صدى بمجرد عبورك الباب الخشبي بني اللون للكنيسة التي لا تختلف تفاصيلها عن مثيلاتها، والتي لم تتوقف عن استقبال المصلين منذ 130 عام تقريبًا، والمقدر عددهم اليوم بحوالي 400 شخص في المحافظة.

كنيسة الأرمن

تطل واجهة الكنيسة على مبنى إداري، لا يٌخفي ملعبا صغيرا، يفصل بينه وبين حرم داخل الحرم، لمدرسة «باغوصيان» الواقعة في آخر قائمة ترتيب مباني البطريركية، ويفصلها عنها سور وبوابة، لم يستطيعا إخفاء جزء من مبناها الأبيض ذي الأبواب والشبابيك الخشبية الكبيرة المعبّرة عن قدم الطراز المعماري لها، وهناك لا يتلقى أطفال المصريون ذوي الجذور الأرمينية، علومًا دينية، كما قد يظن البعض بالخطأ، بل المناهج نفسها التي يدرسها أي طالب مصري من فصول الحضانة إلى الثانوية العامة، ووفقًا لنظام تعليم هذا البلد، الذي تخضع المدرسة لوزارة تعليمه منذ الخمسينيات، وإن أضافت إليها اللغة والتاريخ الأرمينيين.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية