x

وحيد عبد المجيد الحجاب.. والحرية.. واحترام المجال الخاص وحيد عبد المجيد الخميس 23-04-2015 21:35


المسافة واسعة بين شعار الحرية والشعور بالحرية. ولا يتسنى عبور هذه المسافة إلا عبر فهم معنى الحرية واستيعابه جيداً. والحال أننا رفعنا شعار الحرية كثيرا، ولكننا لم نستوعب معناها إلا قليلاً. وما الجدل الذى أثارته دعوة خلع الحجاب وتنظيم تظاهرة لهذا الغرض إلا دليل جديد على ذلك.

ومثلما تدل هذه الدعوة وطريقة توجيهها على عدم استيعاب معنى الحرية، لا نجد فى كثير من ردود الفعل التى أثارتها إدراكاً لهذا المعنى.

ولتوضيح ذلك، نبدأ بسؤال بسيط هو: هل تُعد الدعوة إلى خلع الحجاب ممارسة للحرية؟ الإجابة هى لا، لأساب أهمها أن الدعوة لم تطرح بوصفها رأيا يفضل صاحبه عدم ارتداء الحجاب، وقل مثل ذلك عن الدعوة لارتداء الحجاب من زاوية الإلزام به أو الإرغام عليه، فارتباط الدعوة (الرأى) فى الحالتين بالحرية مشروط بشرطين رئيسين، هما عدم الإلزام، واستخدام طريقة لائقة لا تنطوى على إهانة للآخر أو تحقيره.

فإذا كان الإنسان حراً فى أن يدعو إلى ما يراه صحيحاً، فهو لا يملك حرية إرغام غيره على اتباع هذه الدعوة، أو إلزامه بما لا يؤمن به أو لا يقتنع بصحته. وإذا كان الشخص حراً فى أن يطالب بأمر ما، فهو لا يملك حق إعلان ما يرغب فيه بطريقة مهينة لغيره أو مؤذية لمشاعره، أو تمثل اعتداءً على حريته فى الاختيار.

فالأصل فى الحرية بوصفها قيمة عليا أن يكون للإنسان حق اختيار ما يفعله، وما يؤمن به، وما يعبر عنه. ولذلك لا يحق للإنسان عندما يدعو إلى شىء ما اختاره أن يمنع غيره من أن يختار بدوره ما يؤمن به أو يفعله مادام لا يمثل ضررا لغيره.

وتأسيساً على ذلك، لا يمكننا أن نعد الدعوة التى ما زالت مثيرة للجدل إلى خلع الحجاب نوعاً من الحرية أو شكلاً من أشكال ممارستها. فهى- أولاً- لم تُطرح بوصفها تفضيلاً لا يلغى غيره، ولا يصادر تفضيلات أخرى مختلفة. وهى- ثانياً- تضمنت إهانة وتحقيراً لنوع من أنواع الملبس، واعتداء على حق النساء اللاتى ترتدينه فى الاختيار.

ويدخل حق اختيار الملبس ضمن الفئة الأولى للحقوق الفردية، لأنه يرتبط بالمجال الخاص الذى لا يجوز التدخل فيه على أى نحو. ولذلك بدا مثيراً للاستغراب أن يقترن موقف ضد الحجاب الذى يدخل فى إطار المجال الخاص للإنسان بدعوة إلى تظاهرة للتعبير عن هذا الموقف. فالتظاهر هو شكل من أشكال الاحتجاج على سياسة عامة، وليس على أمر خاص. ولذلك يرتبط التظاهر بالمجال العام الذى يتشارك فيه الناس، ولا يمت بصلة إلى المجال الخاص بكل واحد منهم والذى لا يجوز التدخل فيه لأى سبب أو تحت أى ذريعة.

وهنا، تحديداً، يكمن أحد أهم عوامل ضعف مقومات الحرية فى مجتمعنا، وهو عدم التمييز بين المجالين الخاص والعام. فلا يتطور المجتمع فى اتجاه الحرية إلا عند ترسيخ هذا التمميز، بما يؤدى إليه من احترام المجال الخاص للإنسان، أى حرية كل شخص فى اختيار نمط حياته. ويدخل ما يلبسه الإنسان فى إطار هذا المجال، مثله مثل ما يأكله، ويشربه، ويقرؤه، ويتعلمه، ويؤمن به، ما دام أنه لا يُلحق ضرراً بغيره.

فالحرية لا تستقيم دون مجال خاص لكل فرد لا يستطيع أحد اقتحامه. وهذا هو ما يميز المعنى الحديث للحرية الذى بدأ يتبلور منذ القرن السابع عشر. وقد اقترن مبدأ الخصوصية أو المجال الخاص على هذا النحو بتحرر الإنسان من القيود التى كبلت عقله، وانطلاقه لاستخدام هذا العقل فى الإبداع والاختراع والابتكار، ومن ثم فهم نفسه والعالم الذى يعيش فيه دون أوصياء يتحكمون فى وعيه، وبلا أدلة يدلونه على الصواب والخطأ، ومن ثم يتحكمون فيه ويسوقونه كما تُساق كائنات حية أخرى.

وإذا كان هذا التحول التاريخى جعل الإنسان قادراً على تحديد نوع النظام السياسى والاجتماعى المناسب واختيار الحكام الذين يراهم جديرين بتولى السلطة، فمن باب أولى أن يكون فى استطاعته تقدير كل ما يتعلق بحياته الخاصة وفق ما يهديه إليه، ويسفر عنه تفكيره دون أن يملى عليه غيره إرادته.

وكان إرساء مبدأ الخصوصية بهذا المعنى جزءاً من الأساس الذى أُقيم عليه بناء متكامل لقيمة الحرية. ويشمل هذا الأساس التسامح وقبول الآخر واحترام الاختلاف وتقدير التنوع وإعلاء شأن الحوار الحر، وغيرها من المقومات التى صارت مرتكزات أساسية لقيمة الحرية وثقافتها فى المجتمع الحديث.

وعندما تتوفر فينا هذه المقومات لن نسمع دعوة إلى خلع حجاب أو ارتدائه، ولن يبقى بعض ما يدخل فى إطار المجال الخاص موضعاً لصراع عليه فى المجال العام أو إتجار به فى الساحة السياسية. وعندئذ سيعود الحجاب جزءاً من الحياة الخاصة للمرأة، ولن يتيسر تسييسه أو تحويله إلى رمز من رموز السياسة التى لن تبقى- عندما نستوعب معنى الحرية- على تخلفها الراهن.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية