لم أتوقع أن تتابع ابنتى مشاهدة حلقات (رأفت الهجان) بنفس الشغف والحب الذى كنت عليه قبل 25 سنة، حين أذيعت للمرة الأولى، لكنه حدث.. ترتب وقتها على مشاهدة الحلقات المعادة للمرة المائة، لديها نفس الأسئلة ونفس الهمة ونفس الأمل ونفس البهجة بمصر التى تراها من خلال قصة تحمل عشرات القصص لأبطال مصريين يعملون فى صمت!
تسألنى عن التفاصيل الصغيرة التى وضعها الأديب العبقرى الأستاذ صالح مرسى عن جهاز المخابرات المصرى، عن المشاهد التى أداها ببراعة لا تتكرر محمود عبدالعزيز، عن صدق وروعة تمثيل يوسف شعبان ونبيل الحلفاوى، تفاجئنى أن زملاءها الصغار فى المدرسة يتابعون المسلسل ويتحمسون لقصته، براعة هزيمة العدو بالعقل وبالدهاء، يتأثرون بكل الأفكار التى تحملها الحلقات يوما بعد يوم.
عدت ثلاثين عاما للخلف، المرة الأولى التى أقابل فيها الأستاذ صالح مرسى، الأديب الذى نقل لنا على الورق قصصا من أكثر العمليات المخابراتية روعة، الهجان وجمعة الشوان والصعود إلى الهاوية، قابلته فى مكتبه الصغير الذى جمع فيه آلاف الأوراق التى تحمل أبطالا مصريين لا يعرفهم أحد، لكنهم حركوا الحياة بصبر وأمل ووطنية مخلصة من خلال جهاز المخابرات الذى يبدو دائما فى الذاكرة مكانا معتما لبشر لا ملامح لهم، لكن صالح مرسى أطل على الجانب الحقيقى، فكتب عن لحم ودم وعقل وقلب، وصل برسالته بكل سهولة إلى كل بيت مصرى وعربى، على الأقل هناك مليار مشاهد تابعوا مسلسلا مثل رأفت الهجان، تفاعلوا معه بكل خلية دم فى أعصابهم، أول ما التقيت عم صالح مرسى، كان الرجل مفعما بحيوية لم أعرف مصدرها إلا بعد سنوات حين كتبت معه حلقات بعنوان: ما لم يكتبه صالح مرسى عن رفعت الجمال!، الاسم الحقيقى لشخصية رأفت الهجان، يومها عرفت أن سر صالح مرسى وتوهجه يعود لإيمانه بكل شخصية التقى بها فى جهاز المخابرات لكى يكتب عنها أو يستمع منها، هذه الوطنية التى لا حدود لها تجعل جسد الإنسان عصفورا يرغب فى التحليق إلى أعلى نقطة فى السماء لكى يصنع من المستحيل انتصارا جديدا.
نجحت مشروعات صالح مرسى فى أن توقظ الإحساس الوطنى داخل كل مصرى، حتى بدا الأمر مثل مشروع وطنى أكثر منه عملا دراميا، كانت الشوارع فى العالم العربى كله تخلو من المارة حين تذاع حلقات رأفت الهجان، لم يكن الأمر إبداعا فنيا بقدر ما كان إحساسا بأن كل هؤلاء الأبطال المجهولين يعملون بالنيابة عن ملايين المصريين، اشتعال الإحساس بالوطن يساوى الكثير من الجهد والثروة، وهو أمر لم يفت على أى مبدع ساهم فى خروج هذه الأعمال الفنية إلى الناس، كان الجميع يعمل بإخلاص ومسؤولية ودور كان مبعث فخر!
الآن مرت سنوات طويلة دون نشر قصص بطولة جديدة من جهاز المخابرات المصرية، على الرغم من وجود مئات القصص المهمة المليئة بأبطال حقيقيين، الملفات تحمى أحداثا سرية أتمنى أن يكون قد حان وقتها لكى تنشر، لكى نلهم أجيالا جديدة بالنجاح والبطولة والتضحية التى لم تعد موجودة فى تفاصيل أيامنا.
الدراما التليفزيونية التى هدمت وهزمت عادات كثيرة داخلنا، بقصص عن كل ما هو ردىء فى حياتنا وكل ما هو عاجز ومشوه، حان الوقت أن تتوازن رؤيتنا بقصص أكثر واقعية من حياتنا أيضا، لكنها تعيد لنا نشوة الانتصار وإحساس القدرة على تغيير الواقع مهما كان مؤلما.
من حق الأجيال الجديدة أن تقرأ وتشاهد قصص أبطال صنعوا تغييرا فى مجرى مستقبل الوطن، كما كنا محظوطين، يشعرون بنفس إحساس العرض الأول لمسلسلات فاقت قدرتنا على التوقع، الآن أصبحت نوستالجيا فى حياتنا، لدينا حنين لها كلما عرضت، لكن يبقى داخلنا سؤال: وماذا بعد؟
النيل لا يتوقف عن الجريان لكى يشق طريقا جديدا، لا هو يشكو ولا هو يطلب مقابلا على تدفقه الجميل، هناك آلاف المصريين يعملون فى هذا الوطن مثل النيل مصدر الحياة ومصب البهجة، يعملون بتواصل مدهش، داخل مصر وخارجها، من أجل أن يبقى الوطن وطنا.. الأوطان لا تصنع وحدها ولا تبقى وحدها ولا تتغير وحدها، لكن وراء كل قصة بطل، هؤلاء نرغب أن نراهم وأن نحبس أنفاسنا ونحن نستمع لكل حدث صنعوه، كيف صاغوا الأحداث الصعبة وكيف صنعوا الأيام الأصعب.
أفرجوا عن قصص الأبطال لكى يكونوا مصدرا لإلهام أجيال تبحث بضوء قمر بعيد عن صناعة مصرية ناجحة ومفرحة. اكسروا الحلقة التى أصابت المواطن بالخوف والإحباط والروتين، بصدمات مدهشة وحقيقية تحمل نفس العنوان الذى جعله صالح مرسى علامة ناجحة: قصة من ملفات المخابرات المصرية.