x

أحمد الدريني ماذا لو قرأ إسلام بحيري هذه الدراسة؟ أحمد الدريني الإثنين 20-04-2015 20:59


واحدة من أهم الدراسات المفتاحية لقراءة التراث الإسلامي، كانت تلك التي كتبتها الدكتورة سيزا قاسم أستاذة الأدب المقارن بالجامعة الأمريكية عام 1987، حول مناهج التأريخ والفروقات بين كتابات الطبري والمسعودي وابن خلدون في سرد وتناول التاريخ الإسلامي.

هل قرأ إسلام البحيري هذه الدراسة قبل أن يخوض فيما خاض؟

على الأرجح، وفي غالب ظني: لا!

(2)

كلمة السر التي ترصدها سيزا قاسم عبر المؤرخين الثلاثة هي «المنهج» الذي تطور، والقراءة النقدية المتفحصة للواقع التي أخذت تتبلور شيئا فشيئا مع تبلور التجربة الحضارية والإنسانية للمسلمين الأوائل.

بدءا من تجربة الطبري في التأريخ في القرنين الثالث والرابع الهجري، وصولا لتجربة ابن خلدون في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، مرورا بالمسعودي بينهما.

القراءة السليمة للطبري ستفك طلاسم الكثير من الأمور المعقدة في كتابه الأشهر تاريخ الأمم والملوك والتي كثيرًا ما أثارت البلبلة.

فالطبري على سبيل المثال كان مصدر حادثة «الغرانيق»، التي بنى عليها سلمان رشدي روايته «آيات شيطانية»، ورغم تهافت قصة «الغرانيق» منطقا ولغة ورغم تضادها مع أحداث السيرة النبوية المتتالية، إلا أن البعض قرر أن يتبناها ولو من باب النكاية في الرواية الإسلامية المتفق عليها لفترة البعثة النبوية.

وانفتحت أبواب من الجدل على خلفية كتاب هذا الفقيه المرموق والمؤرخ -الأهم ربما- إلى يومنا هذا. ولكن كيف لعالم دين جليل، وأحد أبرز أئمة المذهب الشافعي الأوائل إلى أن وضع لنفسه مذهبًا خاصًا) أن يورد ما من شأنه أن ينال من الإسلام في شيء؟

يوضح الطبري في مقدمته أنه اختار أن ينقل الروايات على عواهنها، بلفظ قائليها حتى لو رفض هو بعض هؤلاء القائلين، فقد كان الرجل يجمع الروايات الواصلة إليه من كل طرف وشخص ويتعامل معها كـ«قيمة معرفية» في حد ذاتها، تستأهل أن تؤرخ وتوثق حتى لو لم تكن مصدر ثقة، وحتى لو كان قائلها نفسها لا يحظى بثقة الطبري الفقيه والمؤرخ والمحدث الصارم!

وأورد في مقدمته: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستبشعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا»

وهو ما يعصف بعدد من الأخبار والحكايا التي نقلها الطبري ويجعل بعضها في عداد النقل غير الدقيق أو الأكاذيب المفتراة، وفقا لمنهجية الرجل في النقل والتي أشار إليها في مقدمته، والتي تجعل من مصداقية أخباره مسألة تحتاج إلى بحث وتفحص زائدين.

لماذا فعل الطبري ما فعل؟

قيل كان موضوعيًا. لكن عبر ثنايا قصص متناثرة من حياته، أظن أن الرجل كان يقاتل لأجل إثبات كل خبر ورواية نقلها البشر في عصره، لقد كان مهووسا بعملية الرصد والتوثيق منذ خلق آدم حتى يومه.

لذا كان شغف العالم والمؤرخ بداخله، ربما مغالبًا، لصرامة الفقيه.

(3)

ابتسار منهج الطبري عن شخصه كإمام من أئمة القرون الهجرية الأولى، سيدين الرجل على نحو ما، لكن مد الخط على استقامته بين الطبري لتاليه المسعودي ثم لتاليهما بعدة قرون ابن خلدون، سيوضح الصورة الكثير من الشيء.

فرغم إعجاب المسعودي (وهو حفيد الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه) بالطبري، فقد اختار أن يفحص الأخبار وأن يحكي ما يعاينه هو بالسمع والنظر والرصد، مبديًا رأيه تارة، وطارحا بين يدي قارئه انحيازاته ووجهة نظره في الأمور، حتى ليضع نفسه موضع «الشاهد الراوي»، لا الناقل الذي لا يتبنى ولا يتبرأ كما هو حال ابن جرير الطبري.

ويثبت المسعودي في مقدمته منهجه هذا، ويحذر من أي تبديل أو تغيير للمعنى الذي أورده قاصدًا متعمدًا متحملًا المسؤولية كاملة، في مقابل ما يمكن أن نعتبره «تنصلا» من الطبري من روايته، بدرجة من الدرجات.

في حين سيجيء ابن خلدون (وهو قاضي قضاة المالكية في وقته) ليضع منهجا مغايرا لصاحبيه اللذين يكن لهما الإعجاب والتقدير!

سيميز ابن خلدون بين نوعين من الأخبار، أولاها الأخبار الشرعية التي انتقلت عبر سلسلة من الإسناد اعتمدت على علم الرجال وقواعد الجرح والتعديل، التي يبدو من لغته أنه يثق في انضباطها ويصدق بصحتها ويؤمن بها وبمنهجيتها.

أما النوع الثاني من الأخبار، فهو ما كان خارج الأخبار الشرعية وقداستها، مما يتعلق بالتاريخ وبالطبيعة وبحياة الناس، فسينظر له ابن خلدون نظرة الناقد المتفحص، يتدخل ويبدي رأيه ويخلص إلى قناعات بعينها فيعيد إنتاج المعرفة الواردة إليه في منتج جديد تمامًا، تختلط فيه العلوم الشرعية بالعلوم الاجتماعية، متبعا أدوات نقدية يتمازج فيها التاريخي والشخصي.

ترصد سيزا قاسم في بحثها القيم، تطور مناهج التأريخ بين ابن جرير والمسعودي وابن خلدون، وكيف (وكل منهم رجل دين) طور في منهج سابقه ولم يركن إلى صاحبه، رغم إعجاب الثالث بالثاني والأول، ورغم إعجاب الثاني بالأول.

لا يمكن النظر إلى الفروقات بين ثلاثتهم كفروقات مجردة بين ثلاثة مؤرخين مسلمين، نقلوا جانبا هاما من حياة العرب وتراثهم وأخبار الإسلام. فنحن أمام تجربة امتدت لقرون، شهدت على تطور العقل العربي، وتطور أدواته النقدية.

فقد ضرب تغير جذري حياة العرب بعد عقود من البعثة النبوية، فأضحت هناك حاجة ماسة لتأريخ وقائع هذا الدين، ثم إيجاد سبل توثيق وتعاطي مع محدداته وأوامره ونواهيه، فنشأت العلوم وارتبطت بنشأة الفرق والمذاهب، ونشط الذهن العربي على محتوى ضخم هو الإسلام (عقيدته وسيرته وفقهه) وأخذ يتلمس خطاه في التعامل معه.

وبطبيعة الحال، فإن اجتزاء تجربة تبلور العقل العربي وقطع المنتج المعرفي عن سياقه التاريخي وعن سياق نضوج العقل العربي واستيفائه لطرق التفكير النقدية الحديثة، يعد جورا على التجربة ككل، لا على المحتوى فحسب.

وهنا يبدو التراث الإسلامي أقرب لطبقات متراكبة، لا تُقرأ منفصلة عن بعضها البعض ولا بمعزل عن سياقاتها، فهو أشبه بتجربة استغرقت قرونا من الزمان، ظهرت خلالها طرق كثيرة في التعامل مع الدين وشؤونه، اختلفت وفقا لاختلاف الأشخاص واختلاف عقولهم وقدراتهم وطباعهم الشخصية، من التشدد للتساهل للاحتيال للاعتدال.

(4)

ربما كان الاصطدام اللامنهجي، والمجتزأ والمجتزئ الذي اتبعه الباحث إسلام بحيري، يؤسس لنقطة انطلاق جديدة في ضرورة الاعتناء بهذا التراث وضرورة زيارته مرة جديدة وتنقيحه وتمييز مراحله وفصلها عن بعضها البعض.

وذلك عبر حركة بحثية ضخمة، لا بمجرد فرمان أزهري قاطع لا يرد كأنه القضاء والقدر!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية