في إحدى ليالي شهر يوليو عام 1998، أقيم على ملعب «فرنسا الدولي» في شارع دنيس الضخم بالعاصمة الفرنسية باريس، نهائي كأس العالم بين منتخبي فرنسا، مستضيف البطولة، ومنتخب البرازيل.
كان عُشاق «السامبا» يتطلعون لدور المهاجم «رونالدو» في تلك المباراة، إذ كان في الـ21 من عمره، لكن كانت المفاجأة غياب النجم البرازيلي عن التشكيلة الأساسية، الأمر الذي أثار مخاوف البرازيليين من نتيجة المباراة، وسرعان مازالت تلك المخاوف قبل بدء النهائي المرتقب بدقائق، إذ أعلن المذيع الداخلي للمباراة انضمام «رونالدو» للتشكيلة التي ستواجه منتخب «الديوك».
بدأت المباراة، المنتخب البرازيلي في أسوأ حالاته، يلعب بملل، لا توجد روح تنافسية، «رونالدو» هو الآخر بطيء، فاتر الحماس، وهكذا أخذت المباراة تسير من سيئ إلى أسوأ، إلى أن أحرز نجم فرنسا زين الدين زيدان، الهدف الأول في الدقيقة 27، تبعه بهدف ثانٍ قبل نهاية الشوط الأول بدقائق، وفيما بعد أكمل إيمانويل بيتيت الفوز لفرنسا بهدف ثالث.
فرحة عارمة في شوارع باريس، يقابلها بكاء بحرقة في شوارع برازيليا.. «إنها هزيمة مهينة، ماذا حدث؟.. أين رونالدو؟.. أين المتعة؟.. هذه أسوأ مشاركة لنا على الإطلاق في كأس العالم؟»، يتساءل عُشاق «السامبا».
بعد انتهاء البطولة بفترة قصيرة، كشفت تقارير صحفية أن نجم البرازيل «رونالدو» كان يعاني من وعكة صحية قبل المباراة، لذلك لم يسجل المدرب «زاجالو» اسمه في التشكيلة الأساسية، وأمر بإرساله إلى المستشفى لإجراء فحوصات شاملة، أسفرت كلها عن نتائج سلبية، فعاد وأشركه في المباراة، لكن لم يكن بلياقته كاملة، ما انعكس سلبًا على أداء الفريق.
في كتابه «كرة القدم.. الحياة على الطريقة البرازيلية»، الذي ترجمته هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، يقول أليكس بيلوس، الذي قضى فترة طويلة في البرزيل لتأليف الكتاب المذكور، إن أداء «رونالدو» أثار مجموعة من التكهنات حول الأسباب الخفية التي دفعته إلى الوقوع فريسة للمرض في ذلك اليوم تحديدًا، وقيل إنه كان تحت ضغط عصبي كبير، وقال متكهن آخر، إنه تعرض لتأثير المخدرات، أما الأكثر التكهنات غرابة فكانت حول دور شركة الأدوات الرياضية العالمية «نايك» التي كانت ترعى منتخب البرازيل، و«رونالدو» شخصيًا.
ويُضيف: «قال البعض إن شركة نايك أصرت على أن يشارك رونالدو في المباراة دون النظر إلى حالته الصحية غير المستقرة، لأن الشركة استثمرت أموالًا طائلة في دعم تلك المباراة، والترويج لها من خلال رونالدو وفريقه، إذ وقعت عقدًا أثناء البطولة مع البرازيل بقيمة 160 مليون دولار، وكان ذلك أضخم عقد رعاية توقعه الشركة، ولذلك تناثرت أقاويل مختلفة حول التنازلات التي قد يقدمها المنتخب البرازيلي مقابل مثل هذا العقد».
الصحافة البرازيلية كشفت تفاصيل العقد الذي وقعته «نايك» مع البرازيل، وعرضته على صفحاتها الأولى، وجاء في أحد بنود العقد أن «لشركة نايك الحق في التدخل لتنظيم عدد من المباريات»، واعتبر الصحفيون أن ذلك نوع من الاستسلام غير المبرر من طرف البرازيل.
وعلى أثر ذلك، قدم نائب شيوعي يُدعى ألدو ربيلو، اعتراضًا حول الموضوع في مجلس النواب، لفتح تحقيق حول بنود عقد شركة نايك مع الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، وعلى رأسه المنتخب الأول، وارتكز في عريضته على احتمالية أن تكون بنود العقد ماسة بحق السيادة الوطنية والهوية القومية لمواطنين برازيليين، وهي حقوق كفلها الدستور البرازيلي للمواطنين جميعًا، ومنهم اللاعبون، وظل الاعتراض حبيس أدراج المجلس لمدة عام ونصف، إلى أن جرى فتحه عام 2000.
يقول أليكس بيلوس: «اتخذ التحقيق شكل هيئة برلمانية عليا، وهي أعلى هيئة للتحقيق في البرازيل، وتتجاوز سلطاتها سلطات الشرطة، حيث إنها تملك صلاحية الاطلاع على ملفات الشرطة، والحسابات البنكية، وسجلات الضرائب، والمكالمات الهاتفية».
حضر «أليكس» التحقيقات، ونشرها في كتابه «كرة القدم.. الحياة على الطريقة البرازيلية»، واستمع لشهادات المدرب «زاجالو»، والنجم «رونالدو».
يصف «أليكس» مشهد حضور «رونالدو» التحقيقات: «كانت القاعة تغص بالصحفيين، والجمهور يتزاحم لمحاولة مشاهدة رونالدو عند وصوله، وبعد عدة دقائق دخل رونالدو قاعة البرلمان مرتديًا حلة جميلة فاتحة اللون، ليطغى حضوره على الجميع، فها هو ابن الـ24، النجم الشهير يأتي ليمثل أمام لجنة برلمانية لاستجوابه حول خسارته في المباراة».
يضيف: «يُسمح لرونالدو بالحديث لمدة 20 دقيقة، قبل أن يبدأ في الإجابة عن الأسئلة المطروحة عليه، لكن رونالدو يبتسم بثقة، ويطلب كأسًا من الماء قبل الإدلاء بشهادته حول يوم المباراة، تناول الماء، ثم بدأ يذكر أحداث اليوم، ذكر الغداء الجماعي مع الفريق، ثم الصعود إلى الغرف للاستراحة، ثم استيقاظه في الخامسة بعد الظهر، وانضمامه لزملائه في المطعم، وقال إنهم كانوا يعاملونه بغرابة، ولم يتذكر أي شيء عن الحالة الغامضة التي أصابته، ولم يعرف سر قلق أعضاء الفريق إلا بعد أن طلب منه المدرب إجراء فحصوات شاملة».
ويتابع: «حاول أحد النواب الحديث عن المدرب، وسأل رونالدو عن الوقت الذي حضر فيه زجالو لرؤيته عندما كان مريضًا، لكن رونالدو يجيب بثقة: أعتقد أن التوقيت ليس له أهمية تُذكر، كان هناك ما هو أهم بكثير مما يشغل الجميع غير توقيت قدم زجالو إلى غرفتي».
وبحسب الكاتب نفسه، فإن نائب آخر سأل «رونالدو»: من كان يراقب زين الدين زيدان؟، فأجاب النجم البرازيلي:«لا أتذكر من هو اللاعب الذي عينه زجالو لمراقبة زيدن»، وأبدى انزعاجه من طرح مثل هذه الأسئلة، التي لا تتعلق بالتحقيق الأساسي، وهو عقد شركة نايك مع المنتخب، فاستغل أحد النواب هذه الفرصه وسأله سؤالًا مباشرًا حول بنود عقده مع «نايك»، فرد «رونالدو»: «لا أستطيع الكشف عن بنود هذا العقد، لأني وقعت على إبقاء هذه البنود سرية».
واستكمل «رونالدو» حديثه: «أنا لست هنا للدفاع عن شركة نايك، أو الاتحاد البرازيلي، لكنني أقول رأيي الخاص إن أردتم أن تسمعوه، إن هذا العقد يخدم الكرة البرازيلية بطريقة غير مسبوقة، ويوفر لها الوسائل والأموال، لتتمكن من تجاوز بعض مشاكلها المادية، أما بالنسبة لعلاقتي مع الشركة فهي جيدة جيدًا، ولم تطلب مني شيئًا إلا أن أرتدي أحذيتها خلال المباريات، وأسجل بها الأهداف، وهذا ما أفعله سواء بأحذية نايك أو غيرها».
وقبل أن ينتهى «رونالدو» من شهادته، سأله نائب سؤالًا أخيرًا حول رأيه في سبب خسارة البرازيل المباراة النهائية في كأس العالم أمام فرنسا، وهنا فقد «رونالدو» هدوءه، وأخذ يردد بحدة: «لماذا خسرنا؟.. لماذا خسرنا؟.. لقد خسرنا لأننا لم نكسب، هذا كل شيء، نعم في رياضة كرة القدم كما في كل أنواع الرياضة، هناك مكسب وهناك خسارة، لقد فزنا عشرات المرات من قبل، لكن أحدًا لم يسأل: لماذا فزنا؟، لكننا الآن خسرنا، ويمكن أن نفوز مرة أخرة، فلماذا تُثار كل هذه التحليلات حول تلك المباراة؟».