السلام عليكم، وتحية طيبة
بداية، أحييك على مقالك «مراد وهبة أم إسلام بحيري» الذي تطرح فيه رؤيتك الخاصة، ولكنك- في سياق عرضك لرأيك- لم تتجاوز في حق أحد بسوء.
ولكني- وعلى الرغم من ذلك- لي تحفظ على قولك (اسمح لي أن أقول لك إن العلمانية ليست كما يصورونها لك بـ«فصل الدين عن الدولة»)، وتحفظي ينصب على قولك (يصورونها لك) فهذا التعبير فيه ما فيه من التعالي في مخاطبة المختلف فكريًا، وتصوير القارئ- غير المقتنع بالعالمانية- بأنه مجرد تابع لغيره.
ولكن من باب إحسان الظن فلن اعتبر أنك تقصد هذا المعنى.
الآن أنا لن أناقشك في مضمون المقال، وهو- على حد فهمي- يقوم على فكرتين:
الأولى: هي رفض مسلك- مجرد مسلك- إسلام بحيري، وليس رفضك لأفكاره، مع تفضيل أسلوب الدكتور مراد وهبه الهادئ والعف في مناقشة أفكار الآخر.
الثانية: أنك تنتمي لفصيل الكتّاب الذين يرون أن العالمانية تعتبر الحل الأوفق لحياة المصريين.
لي رجاء أتمنى لو تحققه لي، فالحق أن أحدًا لم يحققه من الكتاب الذين طلبت إليهم ذلك، فلقد حاولت جهدي في تعليقاتي -وقت أن كان مسموحًا بالتعليق- على مقالات بعض الكتاب بجريدة الأهرام، أقول حاولت أن أستحثهم لعرض آرائهم في هذا الموضوع، ولكنهم لم يفعلوا، ومنهم (مراد وهبه، السيد ياسين، جابر عصفور، أحمد عبدالمعطي حجازي)، وهذا الرجاء هو مناقشة ونقد ونقض أطروحات المفكرين الإسلاميين المعتدلين والمستقلين، ومنهم (محمد عمارة، طارق البشري، فهمي هويدي، محمد سليم العوا، عبدالوهاب المسيري، محمد السيد الجليند، ... إلخ)
لماذا أنا أطلب ذلك؟ لسببين:
الأول: أني أرفض الخطاب الإسلامي المغلق، ومثاله حزب النور على سبيل المثال.
الثاني: أن جمهرة المثقفين العالمانيين في مصر يركزون على أطروحات فكرية تكاد لا تحتاج لردها من شدة غلوها ومجافاتها للعصر وللإسلام نفسه، والمشكلة أنهم- أي المثقفين العالمانيين- يستخدمون هذه الطريقة لإيهام بعض القراء بأن هذا هو خطاب الإسلاميين وليس غيره، وأيضًا يستخدمون تلك الطريقة من باب الاستسهال، فالمشقة الفكرية في الرد على طارق البشري ليست مثل سهولة الرد على أعلام الإنغلاق.
خالص تحياتي، القارئ/ حسام حسن.
تحياتي أستاذ حسام
أولاً، أشكرك لتنبيهي لما وقعت فيه من خطأ، وإن كانت نيتي -وما أفترض أن العبارة تفصح عنه- ليس التقليل من شأن القارئ وإنما التنبيه لتعمد البعض الإساءة إلى مفهوم العلمانية واختزاله في فكرة فصل الدين عن الدولة من دون جهد في بيان ملامح هذا الفصل وآلياته.
وفقط للإيضاح- وإن كنت لا أحب إيضاح ما أخفقت فيه مقالتي- ولكن من باب النقاش مع حضرتك؛
لست أرفض «مجرد مسلك» إسلام بحيري، وإنما كنت أنتقد ثقافته التي أدت به إلى هذا «المسلك» كما تحب أن تسميه.
ففي مقالتي -التي يجب أن أشير إلى أنها نُشرت قبل تفجر الأزمة وقضية الأزهر وقرار منع إذاعة البرنامج، والتي لي معها موقف مختلف- حاولت أن أنبه إلى أن ثقافة إسلام بحيري -كما تجلت في أدائه اللفظي والجسدي تجاه من يختلف معهم- مبنية على ما نرفضه -نحن وهو- من ثقافة السلفيين المغلقة، القائمة على يقين متعالٍ بامتلاك الحقيقة المطلقة، وبالتالي رفض كل ما عداها بل محاربته ومحاولة النيل منه.
ومن باب قناعتي الشخصية بأن العلمانية ليست محتوى بديل للدين أو عقيدة بديلة، إنما هي مجرد إطار فكري يسمح للكل بأن يعتقد في ما يشاء دون أن يرفض أو يحارب أفكار الآخرين، وتحميهم من عداوة ومحاربة الآخرين.
في المقابل، أرى أن أزمة الخطاب السلفي تكمن في أنه لا يرى نفسه مجرد طريقة تفكير وفهم خاص للدين أو العقيدة، بل يرى أنه هو الدين والعقيدة.
لذلك فقد أخذتُ – في مقالتي -على إسلام بحيري سقوطه في خطيئة السلفيين حين توهم امتلاك الحقيقة المطلقة فصنّف من يخالفه واحتقره وأهانه وناصبه العداء، فكان -بالنسبة لي- كمن يريد استبدال منهج كراهية الآخر باسم اليقين السلفي، بمنهج كراهية الآخر باسم اليقين العلماني!
وهو خطأ فاحش، كما أنه مما لا ينقصنا بالتأكيد في هذه المرحلة الحرجة.
نحن في حاجة إلى من يروج لفكرة قبول المختلفين لاختلافاتهم وتعايشهم من دون تصنيف ديني إلى مسلم وذمي وكافر، أو طائفي داخل الدين الواحد، أو جنسي أو طبقي أو غيره من تصنيفات، على أن يتم ذلك من دون حقد ولا كراهية ظاهرة أو مستترة، وهو ما لا ينجح في فعله سوى قانون عادل متفق عليه وتطبيق منصف لهذا القانون.
وقد افترضتُ قدرة «الإطار العلماني» على تحقيق هذا الأمر.
ولكثرة اللغط الدائر حول مفهوم العلمانية النابع من الإصرار على ربطها –كمفهوم- بتجارب تاريخية، أو تشويه صورتها من قبل المخالفين لها، فقد حاولت استلهام لبّ الفكرة الإنسانية خالصًة من سوءات التاريخ، ووجدتها في تعريف الدكتور مراد وهبة.
ولأنه تعريف فلسفي معقد، فقد حاولتُ تبسيطه ولفت الانتباه إلى أنه مفهوم له أصول رائجة ومتداولة عند كل إنسان بسيط مؤمن بنقاء ومن دون تعقيد، واتخذت المثل بمقولة: كل من له نبي يصلي عليه.
وعليه، فلم أتبنّ فكر الدكتور مراد وهبة، لأنه– كما تفضلتَ أنت بوصفه- «سمح أو متواضع أو عف» ولا أنفي ذلك أو أؤيده، وإنما اخترت تعريفه للعلمانية كباحث وفيلسوف مختص وضع يده على الأزمة ولكن بلغة قد تكون معقدة.
من جهة أخرى، ترى حضرتك في خطابك لي أن «جمهرة المثقفين العالمانيين في مصر يركزون على أطروحات فكرية تكاد لا تحتاج لردها من شدة غلوها ومجافاتها للعصر وللإسلام نفسه».
لن اسألك عن «العصر»، ولكن من حقي أن أسألك «أي إسلام تقصد!» لكي نُحضره أمامنا ونتأكد من مجافاة تلك الطروحات الفكرية له!
ربما تقول لي «إسلام الأزهر الوسطي»، ولكن بما أنه «وسطي» إذن فهناك أطراف ترفضه لأنها تراه بعيدًا عنها، ولأن كل واحد من هذه الأطراف – يتوهم امتلاك الحقيقة- فسوف تنقلب الأطراف على الوسط، وسوف يقف لهم الوسط «بالمرصاد» كما يقول عادة علماء الأزهر «الوسطي».
ستجد نفسك إذن في دوامة من «الإسلامات»، كل منها يدعي أحقيته في تسيد الموقف، بل ودحر الآخرين، وإلزامهم حدودهم «نصرةً لدين الله» وهو الدين نفسه الذي يرى كل آخر من الآخرين أنه هو الذي ينصره.
فمتى نتفرغ للحياة كأفراد، ومتى تتفرغ الدولة للبناء ككيان؟
ألا ترى أن ذلك يُعيدنا إلى جوهر المقال!
لكي تتعايش كل هذه الإسلامات – لم نتحدث بعد عن صراعات الديانات الأخرى- فلابد للجميع من إطار حاكم لا يدّعي امتلاكه للحقيقة ولا احتكاره لليقين، كيان خدمي يسمح للجميع بالعيش من دون أزمة!
وقد افترضتُ قدرة «الإطار العلماني» على تحقيق هذا الأمر.
وأخيرا، لستُ باحثًا مختصًا في الدين، ولست مؤهلا لنقد أو نقض أو حتى مناقشة العلماء الأفاضل الذين تفضلت بذكر أسمائهم.
ولكني مقتنع – حتى لحظتنا هذه على الأقل- بأن التدين لا يحتاج إلى باحث مختص، وإن كان لا يستغني عن عقل وقلب رائقين وغير مشحونين تجاه الآخر – أي آخر.
وإن كان العلماء الأفاضل ممن ذكرتهم ووصفتهم بـ«المفكرين الإسلاميين المعتدلين والمستقلين»، لم ينجحوا في إيصال أفكارهم إلى رجل الشارع لتحريره من سطوة وتسلط الخطاب السلفي التصنيفي، فالمشكلة -بلا شك- في خطابهم، وليس في رجل الشارع.
لن أطيل عليك، فكل ما أردت قوله قلته في مقالتي، واستطردت في مناقشة بعض أفكارها في مقالة «مسلم وعلماني وليبرالي» تواصلًا مع قارئ أكرمني بمداخلة، تمامًا كما أكرمتني بمداخلتك الراقية هذه.
وأخيراً، أعيد التأكيد على أن علمنة العقل هي تخليصه من أسر الإنغلاق في معتقده بوصفه مطلقًا لا يقبل أن يشاركه مطلق آخر في الحيز الذي يوجد فيه، لكي يكون عقلًا مؤمنًا لا يضيره كيف يفكر الآخرون في شؤونهم، إنما كيف يشاركونه بناء المجتمع والوطن واحترام قوانينه وثوابته.
تعال نغير اسمها – إذا شئت- من علمانية إلى «س ص ع» أو «أ ب ج»، المهم أن نتفق على الإطار الفكري الحاكم فيها، وهو: لكم دينكم ولي دين، أو كل من له نبي يصلي عليه، وبيني وبينكم القانون والدستور.
في النهاية شكرا جزيلا لاهتمامك.
[email protected]