تناقلت الصحف أخيرا رواية مجانية التعليم فى وقت يتزايد الغنىّ فيه غنًى، والفقير فقرًا مثل باقى الظواهر الاجتماعية. وقد حاربت القوى الوطنية قبل ثورة 1952 من أجل مجانية التعليم. وتعنى به التعليم العام. وامتدت المجانية إلى التعليم الجامعى بعد الثورة. ومع انحسار ثورة الفرد تدريجيا انحسرت مجانية التعليم أيضا تدريجيا عن طريق الدروس الخصوصية الفردية أو الجماعية. فقد بدأ غلاء المعيشة فى ارتفاع والتحول من العام إلى الخاص فى الاقتصاد والاجتماع. ووصل إلى التعليم، حتى تحولت الخصخصة إلى شعار المرحلة ابتداء من السبعينيات، وبدأت تكون علنية ابتداء من السبعينيات حتى الآن مع تراكم رأس المال فى أيدى رجال الأعمال، وازدياد الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة على مدى أربعين عاما.
وبدأت الخصخصة فى كل شىء حتى وصلت إلى التعليم العام بالمصاريف غير المنظورة بتكاليف الدراسة أو التبرعات للمساهمة فى تكليف بناء المدارس أو إعادة ترميمها أو المنظورة عن طريق مصاريف الكتب. ووضح أن تلك هى روح العصر واختيار المذهب السياسى. ومادامت الفكرة تناقش دون أن تتحول بعد إلى قرار فهو إعداد للنفس كى تقبلها. فالفكرة قرار مسبق. والقرار فكرة تمت مناقشتها من قبل وإعداد الذهن لها. وهو ما يتفق مع روح العصر ومع اختيار النظام السياسى. ويرجع ارتفاع مستوى التعليم قبل ثورة 1952 إلى أنه كان تعليما خاصا. فلما تحول إلى تعليم عام انحدر مستواه. فالعودة إلى مستوى التعليم العالى مرهونة بالعودة إلى التعليم الخاص. فإن استحال نظرا للدستور الذى ينص على مجانية التعليم ينشأ التعليم الخاص فى صورة التعليم الدولى الإنجليزى والفرنسى والألمانى طبقا لحاجة السوق. واستمر فى الجامعات الخاصة، الجامعات البريطانية والكندية والألمانية والفرنسية (ليوبولد سنجور) حتى لا يقل خريج الجامعات المصرية اللغوية عن الجامعات المغربية والشامية فى الفرنسية، والعراقية والسودانية والخليجية فى الإنجليزية. ويتفوق عليه فى الألمانية بالإضافة إلى طبيعة تفوقه فى اللغة العربية.
إن إمكانيات مصر اللغوية والعلمية والثقافية المبعثرة يمكن أن تلمّ شتات نفسها من جديد قبل أن تلمّ شتات غيرها. وما أعطته لبنان مثل زيدان فى القرن التاسع عشر ترده مصر فى النصف الأول من القرن العشرين. وما افتقدته فى النصف الثانى من القرن العشرين تستطيع أن تسترده فى النصف الأول من القرن الحادى والعشرين بعد أن استيقظت بعد الموجة الأولى للثورات العربية الكبرى فى أوله وتعود إلى الجامعات حرياتها وإلى الأستاذ رسالته الفكرية بدلا من بيع الكتب والاتجار فى الملازم أو جعل نفسه بوقا للإعلام متحدثا باسم النظام، وتحويل الجامعة إلى مؤسسة تجارية تبيع العلم للطلاب من خلال ممثليها التجاريين. بل وتؤسس تعليما موازيا هدفه الربح للجامعة والأستاذ، مع التنازل عن كل شروط القبول بالجامعة، وتطبيق نظام التعليم الأمريكى فى بيئة غير أمريكية يقوم على اختيار الدروس وهو لا يختار المواطن بعد والنائب. ويحسب الأستاذ أجره. ويتشاجر الأساتذة على الساعات، الساعة المدفوعة الأجر، وهى أكثر من مكافأة الوطنى بكثير، والنجاح أو الرسوب بالنسبة المطلوبة. ولا يوجد بحث علمى من أجل ذاته. لا يوجد سؤال مطروح، مشرق أو مغرب، أو من الواقع الذى يعيش فيه الطالب. لم يعُد أحد يدرى ما هى الثقافة الوطنية التى يربى عليها الناس؟ من العدو ومن الصديق؟ من الخائن ومن العميل؟
وامتد العنف إلى المؤسسات التربوية فى التعليم العام، تدمير المؤسسة ذاتها، أبوابها وشبابيكها، زجاجها وأثاثها. ويمتد ذلك إلى الجامعة كعنصر من عناصر الاحتجاج السياسى ثم يمتد إلى البشر أنفسهم، إلى الطلاب والأساتذة. ويتحول العنف الداخلى إلى عنف خارجى رمزى، رغبة فى التدمير وإفساد المجتمع. وامتد العنف من مدارس الحكومة إلى المدارس الخاصة وكل ما يرمز إلى النظام، أبراج الكهرباء، وسائل النقل العامة، محطات الصرف الصحى وكل ما يرمز للنظام، الجندى والشرطى، وموظف الأمن. فيتوقف المجتمع عن العمل.
وكلما زاد خوف المجتمع من ضياع مكتسبات ثورة يوليو 1952 التى شهدت أزمة الإخوان الأولى 1954 وأزمة 1980 بعد مقتل رئيس الجمهورية، وهذه الأزمة 2013 أزمة الرئيس المعزول زاد خوف مدارس الحكومة من العنف، ولجأت المدارس الخاصة والدولية إلى مزيد من العنف ظنا أنها أقل عنفا. وزاد عنف الجامعات الحكومية بينما قل أو انعدم فى الجامعات الخاصة. وانشغلت الجامعات بقضية الأمن أكثر مما انشغلت بقضية العلم والبحث العلمى. وصرفت الملايين من العملات المحلية والأجنبية على أجهزة الأمن بدلا من البعثات التعليمية. وقل حضور الطلاب محاضرات الجامعات وانعدم تقريبا فى معامل الأبحاث. وانتشرت هذه الصورة فى الجامعات الأجنبية. فقل حضور العلماء والباحثين من الخارج. وضعفت حجة ضرورة الأمن العسكرى من أجل الأمن المدنى. وبوسائل الاتصال الحديثة يُعرف المجهول.
صحيح أن هناك علاقة بين الأمن العلمى والأمن السياسى ولكن أحيانا ظهرت كثير من المكتشفات العلمية أثناء الاضطرابات السياسية مثل الاكتشاف الذرى أثناء الحرب العالمية الأولى فى وقت الحرب. واستعمال الطاقة النووية فى العلاج الطبى. ومازالت الاستعمالات فى البداية. ومهما قيل فإنها مازالت فى البداية. وتعقد معاهدات بين الدول الكبرى حتى لا تتشعب القوى النووية واستخدامها فى الحروب.
ولما كان البحث النووى باهظ التكاليف كانت مجانية التعليم شرطا ضروريا لإتمامه. ولا تقوم به إلا الدول الاشتراكية مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية أو الدول الرأسمالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو دول العالم الثالث مثل باكستان، وإيران مازالت فى الطريق. وتمتلكه الدولة الصهيونية، إسرائيل. ومازالت بعض الدول مثل مصر تبنى مفاعلا نوويا دفاعا عن نفسها.
ليست فقط مجانية التعليم كالماء والهواء ولكنها هى البداية للتعليم ولمحو الأمية فى بلاد تمثل الأمية فيها 40% من شعوبها. فهى بداية التعليم نظرا لتكاليفه الباهظة وعدم قدرة الفرد على القيام به بمفرده. وفى هذه الحالة يصبح التعليم حقا من حقوق الإنسان وتكون الأمية اختراقا لهذا الحق مثل الاعتقال خرق للحرية.
ويتساءل المربون: لماذا تأخر الإبداع فى مناهج تعليمنا؟ فالتعليم عندنا ليس ضرورة بل هو نقل وتقليد. يتحكم فيه الشرطى لمعرفة مدى اتفاقه مع النظام السياسى الذى يستند إلى نظام ثقافى تقليدى. لذلك لا تهم ثورة سياسية دون ثورة ثقافية أولا، ثورة فى التصورات للعالم. فقبل خلق العالم لزم أولا تصوره كيف، وإلا كان خلقا فوضويا. فالفكر يسبق الوجود طبقا لنظرية المعرفة التقليدية التى لم ييأس منها أحد بعد. ومازالت قادرة على العطاء فى ثقافة مازال يسيطر عليها الجهل. فإذا ما وقعت فى الشك أو اللاأدرية فإنها تفسح المجال أوسع إلى الوجود كما هو الحال فى الغرب حاليا. أما طالما أننا مازلنا فى مرحلة القطعية التى يمثلها التقليد لم نمر بمرحلة الشك بعد فمازال التقليد هو المصدر الأول للمعرفة.