x

أنور الهواري من يوقف قصف المدائن العربية...؟ أنور الهواري الأحد 05-04-2015 21:01


لماذا تخريبُ بغداد وتكريت والموصل، لماذا تخريبُ دمشق وحلب وحماة وأدلب، لماذا تخريبُ صنعاء وعدن وصعدة وتعز وشبوة، لماذا تخريبُ طرابلس وبنغازى وأجدابيا، لماذا تخربون مدائن العرب، لماذا لا تكتفون بإسقاط الأنظمة وإقامة أنظمة جديدة، لماذا تجردون المواطن العربى من داره، ومن أطفاله، ومن جاره، ومن حقله، ومن مدرسته، ومن جذوره...؟!

تخريبُ العواصم العربية هو المقدمةُ اللازمة لإسقاط الدول العربية. تدميرُ المدن العربية هو الشرط الأول لانتكاسة الوجود العربى حتى يرتد إلى عصور ما قبل الخيام. تجريدُ المواطن العربى من عاصمته، ومن منزله، هو أقصرُ الطرق لتجريده من دولته، ومن ثم فهو أقصرُ الطرق لتدمير وجوده من أساسه، بل لاقتلاعه وخلعه من زمانه، فقد أفقدته الغفلة معنى أمسه، وأفقدته الصدمة معنى يومه، وأفقدته الهزيمةُ معنى غده.

لم يكُن مصادفةً أن يبدأ المُخطط من دار السلام، من عاصمة الرشيد، من ذروة المجد العربى، من فخر العواصم الإسلامية، من عاصمة الأدب والفلسفة والشعر والعقل والفقه والحكمة، من بغداد. حين قصفها أعداءُ الإنسانية- تحت جنح الظلام- تتنزلُ القنابلُ فوق رؤوس النخيل العاليات، تدك ما بقى للعرب من أطلال المجد ومن حطام الكبرياء.

لستُ أنسى، ولن أنسى، حذاء وزير الدفاع الأمريكى الأسبق دونالد رامسفيلد وهو يدوس ويجوس فى قصور بغداد، فى مثل هذه الأيام من عام 2003م، ولم يكُن عندى أدنى شك، أن ما لحق ببغداد هو نذيرٌ- لمن يفقه الآيات والنذر- لما سوف يلحق باقى عواصم العرب من خراب يأتى على كل شىء.

وحين زحف الحوثيون على أسوار صنعاء- فى سبتمبر 2014م- لم يكن عندى شك أن تاج العواصم العربية فى طريقها إلى المصير المحتوم. المخطط يعمل بدقة وذكاء: إنه يقتلعنا من الجذور، لا تعنيه- فى قليل أو كثير- هذه العواصم الطارئة والمستحدثة والمستوردة التى شيدتها فوائضُ النفط فوق سطوح الرمال. يكفى المخطط: اقتلاعُ «عواصم الجذور»، وساعتها، سوف تسقط من تلقاء نفسها كُلُّ «عواصم القشور».

ربما لهذا السبب قاتلتُ هنا- وسوف أقاتل- تلك الفكرة الساذجة الغبية: التى ذهبت- فى هذا التوقيت- تبحث لمصر- قلب العروبة والإسلام- عن عاصمة قشورية ورقية طارئة مستحدثة فوق سطوح الرمال. هذا هو وقتُ القاهرة أيها الأغبياء، هذا هو وقتُ الاحتماء بها رمزاً للوجود العربى الإسلامى بأكمله، هذا هو وقتُ التحصن بها قلعةً أخيرة تحمى الوجود العربى من الإفناء الكامل، وتحمى العمران العربى من الزوال الأبدى. وهذا هو دأبُ القاهرة فى كل العصور: هى مأوى العروبة ومآل الإسلام عندما سقطت بغداد وزال مُلكُ بنى العباس. وهى موئلُ العروبة والإسلام عندما سقطت إستانبول وزالت إمبراطورية بنى عثمان. وهى- بكل ضعفها الراهن- الحصنُ الأخير للدفاع عن الوجودين العربى والإسلامى فى هذا المفصل التاريخى الحاد والعاصف والحاسم والأعنف من بين ما عرفنا من مفاصل التاريخ.

اعلموا- أيها الأغبياءُ الأدعياء- نحن باقون هنا فى القاهرة، داراً للعرب أجمعين، داراً للإنسانية، نتحصن وراء أسوارها، نتشبث بمعنى وجودنا الضارب فى أعماقها، فى كنائسها العتيقة، فى مآذنها العريقة، فى لياليها الصابرة على جروح الزمن. لا مستقبل لحرب الوجود- المفروضة علينا وعلى أمتنا من كل جانب- إلا فى وجود القاهرة، ولن ننتصر إلا من القاهرة، ولن تحمى هذه الأمة وجودها إلا من القاهرة، مستقبلُ العروبة من مستقبل القاهرة، ومستقبلُ الإسلام من مستقبل القاهرة.

نعم: هم يفهمون معنى القاهرة أكثر منكم، يفهمون كيف ردت القاهرةُ هجمتهم- تحت غطاء الإخوان فى يونيو 2013م-، هذه العاصمةُ- بذكائها الفطرى- تنبهت واستيقظت وأحست بما يدبر لها، فخرجت تحاصرُ أعداءها، وفى يوم واحد: أسقطت رئيس الإخوان، ومعه سفيرة الأمريكان. استردادُ الدولة المصرية لم يكن وارداً ولا مُستطاعاً دون استرداد القاهرة. القاهرةُ- فى الاستفتاء على دستور الإخوان ثم فى خروجها المتواصل على مدار مائتى يوم- صوبت خطأ الحكام الذين ضعفوا حتى تركوا الحبل على الغارب للإخوان، ثم صوبت خطأ الأقاليم والهوامش والطبقات التى منحت تصويتها- عبر الصندوق- للإخوان.

الماكرون يصورون مخطط التدمير والتخريب المنهجى والمنظم للمدائن العربية كما لو كان- فقط- خناقات وصراعات على السلطة، تتناقلُ الفضائياتُ أخبارها وصورها فى لقطات عابرة تشيرُ- دون اكتراث- للمبانى المهدمة والمدن المخربة. ولكن الحقيقة أكبر من ذلك بكثير: هذا مخطط لئيم لمحو الوجود العربى، يبدأ بمحو البيت العربى، المنزل العربى، المقهى العربى، المدرسة العربية، وصولاً إلى محو المدينة العربية ثم الدولة العربية: يزحف ذاك الطرف على المدينة فيدمر نصفها الأول، ثم يسعى الطرف الثانى لاستردادها، فيزحف عليها، ويدمر نصفها الثانى، ثم يرفع الأعلام فوق لا شىء، فوق مدينة كانت هنا فى يوم من الأيام، وما يبقى إلا اسمها، يرفعون الأعلام فوق أشلاء بشر ماتوا، وفوق أحجار تحكى للتاريخ قصة مدينة سادت حيناً من الدهر ثم بادت فى غفلة من زمانها ومن غباء أهلها.

آخرُ الكلام: لن يكون لنا وجود دون أن تكون لنا دولة، ولن تكون لنا دولة دون أن تكون لنا مدينة.

أوقفوا قصف المدن العربية، الله يهديكم.

والحديثُ مُستأنفٌ.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية