x

عمرو الزنط فى محاولة لمحو الأمية العلمية عمرو الزنط الجمعة 03-04-2015 20:54


منذ أسابيع، بعد كتابة مقال عن «خسارة العلوم الأساسية»، اتصل بى الدكتور إبراهيم فوزى، أستاذ الهندسة، وزير الصناعة الأسبق. كنت قد كتبت عن ندرة الكتب التى تشرح وتبسط ما يجرى فى عالم العلوم الأساسية بطريقة سلسة وصعوبة الحصول عليها بالعربية، (فحتى ما ينشر منها يتلاشى بعد نفاد طبعات محدودة العدد)، فسعدت كثيرا عندما أخبرنى الدكتور فوزى بأنه ترجم كتابا عن ميكانيكا الكم وأنه سيرسله إلىَّ للاطلاع عليه، وزادت سعادتى عند قراءة الكتاب ومتابعة أسلوب العرض المشبع بالذكاء، المتذوق لجوهر ومعنى المادة المسرودة، الحماس الذى ينتقل للقارئ كالعدوى الحميدة.. لقد أقنعنى هذا الكتاب بأنه من الممكن فعلا ترجمة الكتب العلمية للعربية- أو تأليفها، وأعتقد أن الدكتور فوزى أعاد صياغة الكتاب بشكل واسع النطاق- بطريقة محركة للفضول والفكر.

لكن عندما اكتشفت أن الكتاب قد نُشر فى مصر منذ أقل من عام أُصبت بالصدمة والذهول، لأن المعلومات المدرجة فيه توقفت عند سنة 1960، فهل هذا أحسن ما لدينا من تعميم العلم؟ فبعد اكتشاف صعوبة العثور على كتب مترجمة بشكل لا «يطفش» القارئ، قرر الدكتور فوزى ترجمة الكتاب الذى كان قد حصل عليه عام 1969، والذى كان أصلا مترجما للإنجليزية من الروسية.. لكن، رغم مرور الزمن، لاحظ الدكتور فوزى أن الكتاب «يقدم الأسس العلمية التى أرجو أن تنجح فى تحويل اهتمام الشباب من القراء واجتذابهم إلى مجالات العلوم التى لن تحدث أى نهضة أو تقدم فى مصر بدونها».

بالفعل، رغم مرور أكثر من نصف قرن، فإن النص فيه الكثير من المفيد، ليس فقط للشباب، إنما أيضا لمعظم «النخب»، بمن فى ذلك الكثير من المسؤولين عن التعليم والبحث العلمى.. ذلك لأن قصة نشأة وتطور الفيزياء الكمية تجسد ربما أمثل الطرق لفهم وتتبع العلاقة الدقيقة بين منهج العلوم الأساسية وتطور تقنيات التكنولوجيا الحديثة، أى تبلور العالم الصناعى المعاصر بشقيه: الفكرى المجرد الدافع للثقافة، والمادى التقنى الدافع للاقتصاد.. ومن ثَمَّ التعرف على العلاقة الوثيقة بين الرخاء الفكرى والثقافى والازدهار المادى الاقتصادى.

فقد ظهرت بوادر الأزمات التى أصابت عالم الفيزياء «الكلاسيكية»، فى مطلع القرن العشرين، نتيجة تطورات تكنولوجية فى علم البصريات وتحليل الضوء، والتى نتج عنها كم هائل من الأدلة المعملية المحيرة من وجهة نظر فيزياء القرن التاسع عشر.. وعلى أطلال ذلك الزلزال نشأت ميكانيكا الكم، بمنظورها الفكرى الثورى- فكشفت عن عالم لا يمكن التيقن فيه بأشياء تصورنا أننا نعرفها جيدا (مكان جسيم وسرعته مثلا)، وعن ضرورة الاكتفاء بالاحتماليات، عالم تتصرف فيه الجسيمات كموجات (والعكس صحيح أيضا).. لكن من رحم هذا «الكون الكمى» الغريب، بتحدياته الفكرية العميقة، نشأ العالم التكنولوجى الذى نتلاحم معه فى حياتنا اليومية: فعلا من أساس ميكانيكا الكم نشأت أشباه الموصلات- التى تُستخدم فى كل الأجهزة الإلكترونية، من التلفاز والكمبيوتر إلى الـ«آى فون»- وظهرت المفاعلات (والقنابل) الذرية... إلخ.

هكذا يشرح الكتاب التلاحم التاريخى الوثيق بين الفكر والعلوم الأساسية وتقنيات العالم الحديث حتى 1960.. وذلك يكفى لضرب الأمثلة لمن يرفض أن يفهم الدرس حتى فى سنة 2015! لكن الكتاب يفتقد بالطبع أجزاء مهمة من قصة فيزياء الكم، كاكتشاف أشعة الليزر، التى كانت وليدة آنذاك.. واكتشافات مهمة لم تكتمل إلا بعد 1960، مثل كيف صنعت الطبيعة العناصر الكيميائية- كالكربون والحديد والأكسجين والذهب، أى المادة المكونة لصلب الأرض وحياة الإنسان- فجمعتها فى درجات حرارة فائقة فى بطون النجوم.

ولا يتطرق الكتاب لمحاضرة عالم الفيزياء النظرية العظيم ريتشارد فاينمان عام 1959، التى تنبأ خلالها بعلم النانو تكنولوجى «التطبيقى»- الذى صار «موضة» لاحقا- على أساس فهمه الدقيق لميكانيكا الكم.. ويناقش الكتاب فيزياء الجسيمات الأولية، لكن العرض غير مكتمل بالطبع، بل إن أجزاء مما يسرده نعرف أنها خاطئة، لأن نظرتنا المعاصرة لتلك المواضيع لم تتبلور إلا فى العقود الأخيرة.

أحيانا التاريخ يعيد نفسه فى صور متجددة، فكما كان الحال فى أعتاب القرن الماضى، فالمراصد البصرية العملاقة (العاملة فى مجال الفلك هذه المرة) تأتى فى بداية القرن الحادى والعشرين بنتائج يتعسر شرحها فى إطار النظريات المعاصرة، مما قد ينذر بـ«ثورة علمية» فى المستقبل القريب، والتى ستؤثر بدورها على نظرة الإنسان للعالم، وربما أيضا على تقنيات المستقبل.. وسيكون من المحزن أن تمر تلك التطورات دون أن يكون لها أثر فى مصر إلا من خلال المتابعة عن بعد واستيراد التقنيات، وذلك ما سيحدث مادامت نظرتنا لمجال البحث العلمى قصيرة وضيقة الأفق، لأنها تعتبر العلوم الأساسية- بمنهجها المعرفى العميق وتداعياتها المتشعبة- من الكماليات.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية