أول مرة دخلت بيت الأستاذ عبدالحليم حافظ فى الزمالك كان بعد رحيله بثلاثين عاماً فى الخطوة الأولى تذكرت كل ما أملك من أيام صنعها لى هذا المطرب ببساطة تصل إلى حد العبقرية، شريط الكاسيت الصغير الذى كان ينتظر خروج حليم إلى خشبة المسرح فى ليالى شم النسيم، يدور فى صمت لكى يسجل أغانيه الجديدة، لكى نحتفل بها وبه، ونحفظها، بينما نمضى فى طريقنا إلى حديقة أو شاطئ فى الإسكندرية، انتصارا للحياة وحقنا فى البهجة والسعادة!
كنا سعداء، أيام كانت الحياة حياة، بسيطة، المسافات قصيرة إلى الناس وإلى أنفسنا وإلى أحلامنا، كنت صغيرا أتعلق بيد أبى كى أطال السماء، لم نكن وحدنا نضحك.. كانت الوشوش حولنا كلها تضحك، تضحك من قلبها، تضحك لأنها سعيدة، تضحك لأن مزاجها يلتقط أشياء جميلة كثيرة.
فى بيت عبدالحليم حافظ، نظرت من نفس النافذة التى كان يطل منها على النيل لكى يغنى للحب وللحياة ولنا ولمصر، النيل ما زال يجرى، لكن مئات البيوت الرمادية تملأ المشهد خوفا وحزنا، الأشجار فقدت لونها الأخضر، كان البيت من الداخل كما هو مع تجديد حرصت عليه العائلة بعد غياب صاحبه، هذا المقعد الأثير للأستاذ عبدالوهاب، وهو يجرى بروفة فى بيت الفتى الأسمر، هذا البيانو الذى لم تضبط أوتاره منذ زمن الرحيل، أسطوانات لفرانك سيناترا، ودولاب ممتلئ ببذلات حليم الشهيرة.
السبعينيات، حيث غنى أغنيات الوداع، موعود، وفاتت جنبنا، والهوى هوايا، وقارئة الفنجان، وأى دمعة حزن لا، ورسالة من تحت الماء، وحاول تفتكرنى، وبهجتنا الحلوة، بكل ما يحدث حولنا فى الحياة، التزامنا الأخلاقى كمجتمع منفتح دون تلك المغالطات والمتاهات الدينية التى ورطتنا فى خيمة مظلمة، اندماجنا كشعب واحد فى وطن واحد، فى العمارة التى كنت أسكن فيها، كانت احتفالاتنا بالأعياد واحدة، نفس السعادة التى نقتسمها فى رمضان هى التى نشعر بها فى عيد الميلاد، وأحد السعف وشم النسيم، كعك عيد الفطر يطهى فى نفس الفرن الذى تطهى فيه كعكة ميلاد السيد المسيح، وكان فى العمارة مريمان، إحداهما مسلمة، والأخرى مسيحية، والجدع يفرق!
لم أعرف أن حليم يغنى لكى نحب على قصصه البسيطة المكررة التى غناها بإحساس عاشق مهزوم، إلا عندما مات حليم، بعدها بسنوات عرفت أن أغنية مثل أعز الناس يمكن أن تبكينى إذا قرر صديق أن يهاجر، أو قرر حبيب أن يهجر!
كنا نحفظ كلمات أغانيه، فإذا ذهبنا إلى المدرسة وجدنا أفواها كثيرة تغنيها، الناظر والبواب ومدرسة الرسم والفكهانى على أول الشارع والمكوجى فى الزقاق القريب، كلنا نغنى مهما كانت الأغنية صعبة، فنتعلم لغتنا ولهجتنا، لو غنى الحكام العرب الذين حضروا القمة العربية الأخيرة لعبدالحليم، وحفظوا أغانيه، لأنشدوا خطاباتهم الطويلة المملة بلغة عربية أفضل!
ماذا حدث لمجتمعنا؟ هل غياب عبدالحليم حافظ أعاد أمية الكلمة والحب والمعنى والمشاعر والأمانى؟
الحقيقة أن الدولة غابت عن توفير مناخ يصنع شركاء لعبدالحليم حافظ فى حياكة فن أفضل، فن للحياة، فن لكى نرى من خلاله حياتنا تستحق الحياة والمضىّ بها إلى نور وحرية وأمل.
سمعنا عبدالحليم حين صنع حليم فى سنوات الشهوة إلى براكين ملونة تغير الواقع المر المؤلم، سمعناه فى زمن الحلم، سمعناه فى وقت العافية، سمعناه حين كنا نقول كلمة حب لإنسان أو نصمت.
لا يعود الزمان إلى الوراء، لكن حليم يجعلنا نفعل، لكى- على الأقل- نتنفس بعمق نفسا من ماضٍ شديد الرقى والتحضر، نرتدى فيه بذلات رخيصة الثمن شديدة الأناقة لكى نذهب إلى مدارسنا، ونكتب بقلم حبر أزرق.
سرنا فى شوارع نظيفة، لأننا ببساطة كنا نحترم الشوارع كما نحترم بيوتنا، تعلمنا أن نقف احتراما لإشارة عبور الطريق من رصيف إلى رصيف، وفضيلة أن نرفع ورقة ملقاة من الأرض بفخر.
لقد تدهورنا عمدا مع سبق الإصرار، فتح الباب لكى ندفن تحضرنا تحت ركام كل الثقافات والعادات التى هفت علينا من الانفتاح وشغل الكفيل، تجعل الغالى رخيصا والرخيص غاليا، تهدم بيوت اللبن فى الغيطان الخضراء، وترشق بيوت الأسمنت الرمادية، تسرق المشاعر، وتعوضنا بمروحة وبطانية، تخفى أجمل ما فينا فى بطون شرهة قررت أن تبيع كل شىء جميل فى الوطن بأبخس سعر، حتى إنها باعت عبدالحليم حافظ ذاته بأغانيه بتاريخه بأوجاعه إلى جهة غير معلومة، لكى يبقى لنا كل شىء كان جميلا مجرد ذكرى، ويبقى الشعب غير قادر على أن يقتنع أن حياته ليست مشوارا إلى الموت، إنما هى طريق إلى الحياة. «ابقى افتكرنى.. لو مريت فى طريق.. مشينا مرة فيه.. أو عديت فى مكان كان لينا ذكرى فيه». الله يرحمك يا حليم.